واختلف القراء في الوقف فالكسائي وقف على الياء قبل الكاف، ووقف أبو عمرو على الكاف، ووقف الباقون على النون وعلى الهاء، وحمزة يسهل الهمزة في الوقف على أصله، وأما الوصل فلا خلاف فيه بينهم ولما لاح لهم من واقعته أن الرزق إنما هو بيد الله اتبعوه ما دل على أنهم اعتقدوا أيضاً أن الله قادر على ما يريد من غير الرزق كما هو قادر على الرزق من قولهم ﴿لولا أن منّ الله﴾ أي : تفضل الملك الأعظم ﴿علينا﴾ بجوده ولم يعطنا ما تمنيناه من الكنوز على مثل حاله ﴿لخسف بنا﴾ مثل ما خسف به ﴿ويكأنه لا يفلح الكافرون﴾ لنعمة الله تعالى كقارون والمكذبين لرسله وبما وعد لهم من ثواب الآخرة وقوله تعالى :
﴿تلك الدار الآخرة﴾ إشارة تعظيم وتفخيم لشأنها أي : تلك الدار التي سمعت بذكرها وبلغك وصفها، وتلك مبتدأ والدار صفته والخبر ﴿نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض﴾ بالبغي ﴿ولا فساداً﴾ بعمل المعاصي فلم يعلق تعالى الوعد بترك العلو والفساد ولكن بترك، إرادتهما وميل القلوب إليهما كما قال تعالى :﴿ولا تركنوا إلى الذين ظلموا﴾ (هود، ١١٣) فعلق الوعيد بالركون، وعن علي رضي الله تعالى عنه أن الرجل يعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه فيدخل تحتها، وعن الفضيل أنه قرأها ثم قال ذهبت الأماني ههنا، وعن عمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنه أنه كان يرددها حتى قبض، قال الزمخشري : ومن الطماع من يجعل العلو لفرعون والفساد لقارون متعلقاً بقوله تعالى :﴿أن فرعون علا في الأرض﴾ وبقوله تعالى :﴿ولا تبغ الفساد في الأرض﴾ فيقول من لم يكن مثل فرعون وقارون فله تلك الدار الآخرة ولا يتدبر قوله تعالى ﴿والعاقبة﴾ أي : المحمودة ﴿للمتقين﴾ أي : عقاب الله تعالى بعمل طاعته كما تدبره علي والفضيل وعمر بن عبد العزيز رضي الله تعالى عنهم، ولما بيَّن تعالى أن الدار الآخرة ليست لمن يريد علواً في الأرض ولا فساداً بل هي للمتقين بين بعد ذلك ما يحصل فقال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٩
من جاء بالحسنة فله خير منها﴾
من عشرة أضعاف إلى سبعين إلى سبعمائة ضعف إلى ما لا يحيط به إلا الله تعالى ﴿ومن جاء بالسيئة﴾ وهي ما نهى الله تعالى عنه ومنه إخافه المؤمنين ﴿فلا يجزى﴾ أي : من أيّ جاز وأظهر ما في هذا الفعل من الضمير العائد على من بقوله تعالى :﴿الذين عملوا السيئآت﴾ تصويراً لحالهم وتقبيحاً لهم وتنفيراً من عملها
١٧٢
﴿إلا﴾ جزاء ﴿ما كانوا يعملون﴾ أي : مثله وهذا من فضل الله العظيم وكرمه الواسع أن لا يجزي السيئة إلا بمثلها ويجزي الحسنة بأكثر منها كما مرّ، فإن قيل قال تعالى :﴿إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها﴾ (الإسراء : ٧)
كرر ذكر الإحسان واكتفى في ذكر الإساءة بمرة واحدة فما السبب في ذلك ؟
أجيب : بأن هذا المقام مقام ترغيب في الدار الآخرة فكانت المبالغة في النهي عن المعصية مبالغة في الدعوة إلى الآخرة، وأما الآية الأخرى فهي شرح حالهم فكانت المبالغة في ذكر محاسنهم أولى، فإن قيل كيف أنه تعالى لا يجزي السيئة إلا بمثلها مع أن المتكلم بكلمة الكفر إذا مات في الحال عذب أبد الآبار ؟
أجيب : بأنه كان على عزم أنه لو عاش أبداً لقال ذلك فعومل بمقتضى عزمه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٦٩
﴿أن الذي فرض﴾ أي : أنزل ﴿عليك القرآن﴾ قاله أكثر المفسرين، وقال عطاء : أوجب عليك العمل بالقرآن، وقال أبو عليّ : فرض عليك أحكامه وفرائضه ﴿لرادّك إلى معاد﴾ أي : معاد ليس لغيرك من البشر وهو المقام المحمود الذي وعدك أن يبعثك فيه وتنكير المعاد لذلك، وروى سعيد بن جبير عن ابن عباس يعني إلى الموت، وقال الزهري وعكرمة : إلى يوم القيامة، وقيل إلى الجنة.
وروى العوفي عن ابن عباس رضى الله تعالى عنهما يعني إلى مكة وهو قول مجاهد، وقال القتيبي : معاد الرجل بلده ينصرف ثم يعود إلى بلده وذلك أنّ النبيّ ﷺ لما خرج من الغار مهاجراً إلى المدينة سار في غير الطريق مخافة الطلب فلما أمن ورجع إلى الطريق ونزل الجحفة بين مكة والمدينة وعرف الطريق إلى مكة اشتاق إليها فأتاه جبريل عليه السلام فقال : اشتقت إلى بلدك ومولدك قال : نعم قال : فإنّ الله تعالى يقول :﴿أن الذي فرض عليك القرآن لرادّك إلى معاد﴾ قال الرازي : وهذا أقرب لأنّ ظاهر المعاد أنه كان فيه وفارقه وحصل له العود إليه وذلك لا يليق إلا بمكة وإن كان سائر الوجوه محتملاً لكن ذلك أقرب، قال أهل التحقيق : وهذا آخر مما يدل على نبوته لأنه أخبر عن الغيب ووقع كما أخبر فيكون معجزاً ونزل جواباً لقول كفار مكة إنك لفي ضلال مبين ﴿قل﴾ أي : للمشركين ﴿ربي أعلم من جاء بالهدى﴾ وما يستحقه من الثواب في المعاد يعني نفسه ﴿ومن هو في ضلال مبين﴾ يعنيهم وما يستحقونه من العذاب في معادهم فهو الجائي بالهدى وهم في الضلال، تنبيه : من جاء منصوب بمضمر أي : يعلم أو بأعلم أن جعلناها بمعنى عالم وأعملناها إعماله.


الصفحة التالية
Icon