وروي أنها نزلت في عياش بن أبي ربيعة المخزومي وذلك أنه هاجر مع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنهما مترافقين حتى نزلا المدينة فخرج أبو جهل بن هشام والحارث بن هشام أخواه لأمّه أسماء بنت مخرمة امرأة من بني تميم بن حنظلة فنزلا بعياش وقالا له : إنّ من دين محمد صلة الأرحام وبرّ الوالدين وقد تركت أمك لا تأكل ولا تشرب ولا تأوي بيتاً حتى تراك وهي أشد حباً لك منا فاستشار عمر فقال : هما يخدعانك ولك عليّ أن أقسم مالي بيني وبينك فما زالا به
١٧٨
حتى أطاعهما وعصى عمر فقال عمر : أمّا إذا عصيتني فخذ ناقتي فليس في الدنيا بعير يلحقها فإن رابك منهما ريب فارجع فلما انتهوا إلى البيداء قال أبو جهل : إن ناقتي قد كلت فاحملني معك قال : نعم فنزل ليوطئ لنفسه وله فأخذاه وشدّاه وأوثقاه وجلده كل واحد منهما مائة جلدة وذهبا به إلى أمه فقالت : لا تزال في عذاب حتى ترجع عن دين محمد فنزلت رضي تعالى الله عنه وأرضاه ونفعنا به في الدنيا والآخرة، ولما كان التقدير فالذين أشركوا وعملوا السيئات لندخلنهم في المفسدين ولكنه طواه لدلالة السياق عليه عطف عليه زيادة في الحث على الإحسان إلى الوالدين قوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٧
والذين آمنوا وعملوا﴾
تحقيقاً لإيمانهم ﴿الصالحات لندخلهم في الصالحين﴾ أي : الأنبياء والأولياء بأن نحشرهم معهم، أو ندخلهم وهم الجنة، والصلاح منتهى درجات المؤمنين ومنتهى أنبياء الله والمرسلين، ولما بين سبحانه وتعالى المؤمن بقوله تعالى :﴿فليعلمنّ الله الذين صدقوا﴾ وبين الكافر بقوله تعالى :﴿وليعلمنّ الكاذبين﴾ بين أنه بقي قسم ثالث مذبذب بقوله تعالى :
﴿ومن الناس من يقول آمنا بالله فإذا أوذي في الله﴾ بأن عذبهم الكفرة على الإيمان ﴿جعل فتنة الناس﴾ أي : له بما يصيبه من أذيتهم في منعه عن الإيمان إلى الكفر ﴿كعذاب الله﴾ أي : في الصرف عن الكفر إلى الإيمان ﴿ولئن﴾ لام قسم ﴿جاء نصر﴾ أي : للمؤمنين ﴿من ربك﴾ أي : بفتح وغنيمة ﴿ليقولنّ﴾ حذف منه نون الرفع لتوالي النونات، والواو ضمير الجمع لالتقاء الساكنين ﴿إنا كنا معكم﴾ في الإيمان فأشركونا في الغنيمة وأما عند الشدّة فيجبنون كما قال الشاعر :
*وما أكثر الأصحاب حين تعدهم ** ولكنهم في النائبات قليل *
قال الله تعالى :﴿أو ليس الله بأعلم﴾ أي : بعالم ﴿بما في صدور﴾ أي : قلوب ﴿العالمين﴾ من الإيمان والنفاق.
﴿وليعلمنّ الله الذين آمنوا﴾ أي : بقلوبهم ﴿وليعلمنّ المنافقين﴾ فيجازي الفريقين، واللام في الفعلين لام قسم، ولما بين الفرق الثلاثة وأحوالهم ذكر أن الكافر يدعو من يقول آمنت إلى الكفر بقوله تعالى :
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي : ظاهراً وباطناً ﴿للذين آمنوا﴾ أي : ظاهراً وباطناً لم تتحملون الأذى والذل ؟
﴿اتبعوا سبيلنا﴾ أي : الذي نسلكه في ديننا تدفعوا عن أنفسكم ذلك، فقالوا : نخاف من عذاب الله تعالى على خطيئة اتباعكم فقالوا لهم اتبعونا ﴿ولنحمل خطاياكم﴾ إن كان ذلك خطيئة أو إن كان بعث ومؤاخذة، قال الجلال المحلي : والأمر بمعنى الخبر وهو أولى من قول البيضاوي : وإنما أمروا أنفسهم بالحمل عاطفين على أمرهم بالاتباع مبالغة في تعليق الحمل بالاتباع والوعد بتخفيف الأوزارعنهم إن كان تشجيعاً للمؤمنين على الاتباع وبهذا الاعتبار رد عليهم وكذبهم بقوله ﴿وما هم﴾ أي : الكفار ﴿بحاملين من خطاياهم﴾ أي : المؤمنين ﴿من شيء أنهم لكاذبون﴾ في ذلك، قال الزمخشري : وترى في المتسمين بالإسلام من يستن بأولئك فيقول لصاحبه إذا أراد أن يشجعه على ارتكاب بعض العظائم افعل هذا وإثمه في عنقي وكم من مغرور
١٧٩
بمثل هذا الضمان من ضعفة العامة وجهلتهم ؟
ومنه ما يحكي أن أبا جعفر المنصور رفع إليه بعض أهل الحشو حوائجه فلما قضاها قال : يا أمير المؤمنين بقيت الحاجة العظمى قال : وما هي قال شفاعتك يوم القيامة فقال : له عمرو بن عبيد رحمه الله إياك وهؤلاء فإنهم قطاع الطريق في المأمن، فإن قيل كيف سماهم الله تعالى كاذبين وإنما ضمنوا شيئاً علم الله تعالى أنهم لا يقدرون على الوفاء به وضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به، لا يسمى كاذباً لا حين ضمن ولا حين عجز لأنه في الحالين لا يدخل تحت حد الكاذب وهو المخبر عن الشيء لا على ما هو عليه ؟
أجيب : بأنّ الله تعالى شبه حالهم حيث علم أن ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون بالكاذبين الذين خبرهم لا على ما عليه المخبر عنهم، ويجوز أن يراد أنهم كاذبون لأنهم قالوا ذلك وقلوبهم على خلافه كالكاذبين الذين يعدون الشيء وفي قلوبهم نية الخلف، تنبيه : من الأولى : للتبيين، والثانية : مزيدة، والتقدير : وما هم بحاملين شيئاً من خطاياهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٧٧
فإن قيل قال الله تعالى :﴿وما هم بحاملين من خطاياهم من شيء﴾ ثم قال الله تعالى :


الصفحة التالية
Icon