﴿وإبراهيم﴾ وهو منصوب إما باذكر ويكون ﴿إذ قال لقومه اعبدوا الله واتقوه﴾ أي : خافوا عقابه بدل اشتمال لأنّ الأحيان تشمل ما فيها، وإمّا معطوفاً على نوحاً، وإذ ظرف لأرسلنا أي : أرسلناه حين بلغ من السنّ والعلم مبلغاً صلح فيه لأنْ يعظ قومه وينصحهم ويعرض عليهم الحق ويأمرهم بالعبادة والتقوى ﴿ذلكم﴾ أي : الأمر العظيم الذي هو إخلاصكم في عبادتكم له وتقواكم ﴿خير لكم﴾ أي : من كل شيء ﴿إن كنتم تعلمون﴾ أي : في عداد من يتجدّد له علم فينظر في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل، ولما أمرهم بما تقدّم ونفى العلم عمن جهل خيريته دل عليه بقوله.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨١
إنما تعبدون من دون الله﴾
أي : غيره ﴿أوثاناً﴾ أي : أصناماً لا تستحق العبادة لأنها حجارة منحوتة لا شرف لها ﴿وتخلقون﴾ أي : تصوّرون بأيديكم ﴿إفكاً﴾ أي : شيئاً مصروفاً عن وجهه فإنه مصنوع وأنتم تسمونه باسم الصانع، ومربوب وأنتم تسمونه رباً، أو تقولون كذباً في تسميتها آلهة وادعاء شفاعتها عند الله، ثم إنّ الله تعالى نفى عنها النفع بقوله تعالى :﴿إن الذين تعبدون﴾ ضلالاً وعدولاً عن الحق الواضح ﴿من دون﴾ أي : غير ﴿الله﴾ الذي له الملك كله ﴿لا يملكون لكم رزقاً﴾ أي : شيئاً من الرزق الذي لا قوام لكم بدونه وأنتم تعبدونها فكيف بغيركم فتسبب عن ذلك قوله تعالى :﴿فابتغوا﴾ أي : اطلبوا ﴿عند الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال ﴿الرزق﴾ أي : كله فإنه لا شيء منه إلا وهو بيده، فإن قيل : لم نكر الرزق في قوله تعالى :﴿لا يملكون لكم رزقاً﴾ ؟
وعرفه في قوله تعالى :﴿فابتغوا عند الله الرزق﴾ أجيب : بأنه نكره في معرض النفي أي : لا رزق عندهم أصلاً وعرفه عند الإثبات عند الله تعالى أي : كل رزق عنده فاطلبوه منه، وأيضاً الرزق من الله معروف لقوله تعالى :﴿وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ﴾ (هود، ٦) والرزق من الأوثان غير معلوم فنكره لعدم حصول العلم به ﴿واعبدوه﴾ أي : عبادة يقبلها وهي ما كانت خالصة من الشرك ﴿واشكروا﴾ أي : أوقعوا الشكر ﴿له﴾ خاصة على ما أفاض عليكم من النعم، ثم علل ذلك بقوله تعالى :﴿إليه﴾ وحده ﴿ترجعون﴾ أي : معنى في الدنيا والآخرة فإنه لا حكم في الحقيقة لأحد سواه، وحساً بالنشر والحشر بأيسر أمر فيثيب الطائع ويعذب العاصي.
١٨٢
ولما فرغ من بيان التوحيد أتى بعده بالتهديد فقال :
﴿وإن تكذبوا﴾ أي : وإن تكذبوني ﴿فقد﴾ أي : فيكفيكم في الوعظ والتهديد معرفتكم بأنه قد ﴿كذب أمم﴾ أي : في الأزمان الكائنة ﴿من قبلكم﴾ أي : من قبلي من الرسل فجرى الأمر فيهم على سنن واحد لم يختلف قط في نجاة المطيع للرّسول، وهلاك العاصي له، ولم يضرّ ذلك الرسول شيئاً وما أضروا به إلا أنفسهم ﴿وما على الرسول﴾ أن يقهركم على التصديق بل ما عليه ﴿إلا البلاغ المبين﴾ الموضح مع ظهوره في نفسه بلا مرية بحيث لا يبقى فيه شك بإظهار المعجزة وإقامة الأدلة على الوحدانية.
تنبيه : في المخاطب بهذه الآية والآيات بعدها إلى قوله تعالى :﴿فما كان جواب قومه﴾ وجهان الأوّل : أنه قوم إبراهيم عليه السلام لأنّ القصة له فكأنّ إبراهيم عليه السلام قال لقومه : إن تكذبوني فقد كذب أمم من قبلكم، وإنما أتيت بما عليّ من التبليغ فإنّ الرسول ليس عليه إلا التبليغ والبيان، فإن قيل : إنّ إبراهيم عليه السلام لم يسبقه إلا قوم نوح وهم أمّة واحدة ؟
أجيب : بأن قبل قوم نوح أيضاً كان أقوام كقوم إدريس وقوم شيث وآدم، وأيضاً فإنّ نوحاً عليه السلام عاش أكثر من ألف سنة وكان القرن يموت وتجيء أولاده والآباء يوصون الأبناء بالامتناع من الاتباع فكفى بقوم نوح أمما ولقد عاش إدريس ألف سنة في قومه إلى أن رفع إلى السماء وآمن به ألف إنسان منهم على عدد سنيه وأعقابهم على التكذيب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨١
الثاني : أنّ الآية مع قوم محمد ﷺ لأنّ هذه القصص أكثرها المقصود منه تذكير قومه بحال من مضى حتى يمتنعوا من التكذيب ويرتدعوا خوفاً من التعذيب فقال في أثناء حكاياتهم يا قوم : إن تكذبوا فقد كذب قبلكم أقوام هلكوا فإن كذبتم فإني أخاف عليكم أن يقع بكم ما وقع بغيركم، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي والبقاعي.
وهذه الآية تدل كما قال ابن عادل : على أنه لا يجوز تأخير البيان عن وقت الحاجة لأنّ الرسول إذا بلغ شيئاً ولم يبينه فلم يأت بالبلاغ المبين.
﴿أو لم يروا﴾ أي : ينظروا ﴿كيف يبدئ الله﴾ أي : الذي له كل كمال ﴿الخلق﴾ أي : يخلقهم الله تعالى ابتداء نطفة ثم مضغة ثم علقة ﴿ثم﴾ هو لا غيره ﴿يعيده﴾ أي : الخلق كما كان ﴿إنّ ذلك﴾ أي : المذكور من الخلق الأوّل والثاني ﴿على الله﴾ أي : الجامع لكل كمال، المنزه عن كل شائبة نقص ﴿يسير﴾ فكيف ينكرون الثاني ؟
، فإن قيل : متى رأى الإنسان بدء الخلق حتى يقال أو لم يروا كيف يبدأ الله الخلق ؟


الصفحة التالية
Icon