﴿فما كان جواب قومه﴾ لما أمرهم بالتوحيد وتقوى الله تعالى ﴿إلا أن قالوا﴾ أي : قال بعضهم لبعض أو قاله واحد منهم وكان الباقون راضين ﴿اقتلوه أو حرّقوه﴾ بالنار، فإن قيل كيف سمى قولهم اقتلوه أو حرّقوه جواباً مع أنه ليس بجواب ؟
أجيب عنه من وجهين : أحدهما : أنه خرج مخرج كلام المتكبر كما يقول الملك لرسول خصمه جوابكم السيف مع أن السيف ليس بجواب وإنما معناه لا أقابل بالجواب وإنما أقابل بالسيف، وثانيهما : أن الله تعالى أراد بيان صلابتهم وأنهم ذكروا ما ليس بجواب في معرض الجواب فبين أنهم لم يكن لهم جواب أصلاً، وذلك أن من لا يجيب غيره وسكت لا يعلم أنه يقدر على الجواب أم لا لجواز أن يكون سكوته عن الجواب لعدم الالتفات، وأما إذا أجاب بجواب فاسد علم أنه قصد الجواب وما قدر عليه، ثم إنهم استقرّ رأيهم على الإحراق فجمعوا له حطباً إلى أن ملؤوا ما بين الجبال وأضرموا فيه النار حتى أحرقت ما دنا منها بعظيم الاشتعال وقذفوه فيها بالمنجنيق ﴿فأنجاه الله﴾ بما له من كمال العظمة ﴿من النار﴾ أي : من إحراقها وأذاها ونفعته بأن أحرقت وثاقه ﴿إن في ذلك ﴾ أي : ما ذكر من أمره وما اشتملت عليه قصته من الحكم ﴿لآيات﴾ أي : براهين قاطعة على جميع أمر الله من تصرفه في الأعيان والمعاني لكون النار لم تحرقه وأحرقت وثاقه وكل ما مرّ عليها من طائر وإخمادها مع عظمتها في زمان يسير وإنشاء روض مكانها، وروي أنه لم ينتفع في ذلك اليوم الذي ألقي فيه إبراهيم عليه السلام بالنار وذلك لذهاب حرقها ﴿لقوم يؤمنون﴾ أي : يصدقون بتوحيد الله وقدرته لأنهم المنتفعون بالفحص عنها والتأمّل فيها.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٦
وقال﴾
أي : إبراهيم عليه السلام غير هائب لتهديدهم بقتل أو غيره ﴿إنما اتخذتم﴾ أي : أخذتم باصطناع وتكلف وأشار إلى عظمة الله وعلوّ شأنه ﴿من دون الله﴾ الذي كل شيء تحت قهره ﴿أوثاناً﴾ أي : أصناماً تبعدونها وما مصدرية ﴿مودّة بينكم﴾ أي : تواددتم على محبتها ﴿في الحياة الدنيا﴾ بالاجتماع عندها والتواصل في أمرها بالتناصر والتعاضد كما يتفق ناس على مذهب فيكون ذلك سبب تصادقهم، وهذا دال على أن جمع الفسوق لأهل الدنيا هو العادة المستمرّة، وأن الحب في الله والاجتماع له عزيز جدّاً لما فيه من قطع علائق الدنيا وشهواتها التي زينت للناس على ما فيها من الإلباس وعظيم البأس، وقرأ نافع وابن عامر وشعبة مودّة بالنصب والتنوين وبينكم بنصب النون فنصب مودّة على أنه مفعول له أي : لأجل مودّة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو والكسائي برفع مودّة من غير تنوين وكسر النون على أنّ مودّة خبر مبتدأ محذوف أي : هي مودّة، والباقون بنصب مودّة من غير تنوين وكسر النون وهذا أيضاً كإعراب المنوّنة، ولما أشار إلى هذا النفع الذي هو في الحقيقة ضراً تبع ذلك ما يعقبه من الضرّ البالغ معبراً
١٨٦
بأداة البعد بقوله :﴿ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض﴾ فينكر كل منكم محاسن أخيه ويتبرأ منه وتلعن الأتباع القادة وتلعن القادة الأتباع كما قال تعالى :﴿ويلعن بعضكم بعضاً﴾ (العنكبوت، ٢٥) وتنكرون كلكم عبادة الأوثان تارة إذا تحققتم أنها ضرر لا نفع لها وتقرّون بها أخرى طالبين نصرتها راجين منفعتها وتنكر الأوثان عبادتكم وتجحد منفعتكم ﴿ومأواكم﴾ أي : جميعاً أنتم والأوثان ﴿النار وما لكم من ناصرين﴾ يحمونكم منها، ثم بين تعالى أوّل من آمن بإبراهيم بقوله تعالى :
﴿فآمن له﴾ أي : لأجل دعائه له مع ما رأى من الآيات ﴿لوط﴾ وكان ابن أخيه هاران وهو أوّل من صدّقه من الرجال ﴿وقال﴾ أي : إبراهيم عليه السلام لما هو جدير بالإنكار من الهجرة لصعوبتها ﴿إني مهاجر﴾ أي : خارج من أرضي وعشيرتي على وجه يهمّ فمنتقل ومنحاز ﴿إلى ربي﴾ أي : إلى أرض ليس فيها أنيس ولا عشير ولا من ترجى نصرته ولا من تنفع مودّته فهاجر من كوثى من سواد الكوفة إلى حران ثم منها إلى الأرض المقدّسة فكانت هجرتان، ومن ثم قالوا لكل نبيّ هجرة ولإبراهيم عليه السلام هجرتان، وهو أوّل من هاجر في الله وكان معه في هجرته لوط وامرأته سارة، قال مقاتل وكان إذ ذاك ابن خمس وسبعين سنة.
فإن قيل : لمَ لَمْ يقل : إني مهاجر إلى حيث أمرني ربي مع أنّ المهاجرة توهم الجهة ؟
أجيب : بأنّ هذا القول ليس في الإخلاص كقوله إلى ربي لأنّ الملك إذا صدر منه أمر برواح الأخيار ثم إن واحداً منهم سار إلى ذلك الموضع لغرض نفسه فقد هاجر إلى حيث أمره الملك ولكن ليس مخلصاً لوجهه فلذا قال مهاجر إلى ربي يعني يوجهني إلى الجهة المأمور بالهجرة إليها ليس طلباً للجهة وإنما هو طلب لله، ثم علل ذلك بما يسليه عن فراق أرضه وأهل ودّه من ذوي رحمه وأنسابه بقوله :﴿إنه هو﴾ أي : وحده ﴿العزيز﴾ أي : فهو جدير بإعزاز من انقطع إليه ﴿الحكيم﴾ فهو إذا أعز أحداً منعته حكمته من التعرّض له بالإذلال بفعل أو مقال، ولما كان التقدير فأعززناه بما ظنّ بنا عطف عليه قوله :


الصفحة التالية
Icon