ولقد تركنا} أي : بما لنا من العظمة ﴿منها﴾ أي : من تلك القرى ﴿آية﴾ أي : علامة على قدرتنا على كل ما نريد ﴿بينة﴾ أي : ظاهرة، قال ابن عباس : منازلهم الخربة، وقال قتادة هي الحجارة التي أهلكوا بها أبقاها الله تعالى حتى أدركها أوائل هذه الأمة، وقال مجاهد هو ظهور الماء الأسود على وجه الأرض، فائدة : اتفق القراء على إدغام الدال في التاء.
١٩١
تنبيه : في هذه الآية إشارة إلى غفلة المخاطبين بهذه القصة من العرب وغيرهم وأنه ليس بينهم وبين الهدى إلا تفكرهم في أمرهم مع الانخلاع من الهوى وإنما يكون ذلك ﴿لقوم يعقلون﴾ أي : يتدبرون فعد من لم يستبصر بذلك غير عاقل، تنبيه : ههنا أسئلة :(الأوّل) كيف جعل الآية في نوح وإبراهيم عليهما السلام بالنجاة فقال :﴿فأنجيناه وأصحاب السفينة وجعلناها آية﴾ (العنكبوت، ١٥) وقال :﴿فأنجاه الله من النار إنّ في ذلك لآيات﴾ (العنكبوت، ٢٤) وجعل ههنا الهلاك آية، (الثاني) : ما الحكمة في قوله تعالى في السفينة ﴿جعلناها آية﴾ ولم يقل بينة وقال ههنا آية بينة، (الثالث) : ما الحكمة في قوله تعالى هناك ﴿للعالمين﴾ وقال ههنا :﴿لقوم يعقلون﴾ ؟
أجيب عن الأوّل : بأنّ الآية في إبراهيم كانت في النجاة لأنّ في ذلك الوقت لم يكن إهلاك، وأما في نوح فلأن الإنجاء من الطوفان الذي علا الجبال بأسرها أمر عجيب إلهي وما به النجاة وهو السفينة كان باقياً والغرق لم يبق له بعده أثر محسوس في البلاد فجعل الباقي آية، وأما ههنا فنجاة لوط لم تكن بأمر يبقى في أثره للحس، والهلاك أثره محسوس في البلاد فجعل الآية الأمر الباقي ههنا البلاد وهناك السفينة.
وههنا لطيفة : وهي أنّ الله تعالى آية قدرته موجودة في الإنجاء والإهلاك فذكر من كل باب آية وقدم آيات الإنجاء لأنها أثر الرحمة وآخر آيات الهلاك لأنها أثر الغضب ورحمته سابقة، وعن الثاني بأنّ الإنجاء بالسفينة لا يفتقر إلى أمر آخر، وأمّا الآية ههنا الخسف وجعل ديارهم المعمورة عاليها سافلها وهو ليس بمعتاد وإنما ذلك بإرادة قادر يخصصه بمكان دون مكان وبزمان دون زمان فهي بينة لا يمكن الجاهل أن يقول هذا أمر يكون كذلك وكان له أن يقول في السفينة أمرها يكون كذلك فيقال له فلو دام الماء حتى ينفد زادهم كيف كانت تحصل لهم النجاة ولو سلط الله تعالى عليهم الريح العاصفة كيف تكون أحوالهم، وعن الثالث بأنّ السفينة موجودة معلومة في جميع أقطار العالم فعند كل قوم مثال السفينة يتذكرون بها حالة نوح وإذا ركبوها يطلبون من الله النجاة منه ولا يثق أحد بمجرّد السفينة بل يكون دائماً مرتجف القلب متضرّعاً إلى الله تعالى طالباً للنجاة، وأمّا أثر الهلاك في بلاد لوط ففي موضع مخصوص لا يطلع عليه إلا من مر بها ويصل إليها ويكون له عقل يعلم أنّ ذلك من الله تعالى وإراداته بسبب اختصاصه بمكان دون مكان ووجوده في زمان دون زمان، ولما كان شعيب عليه السلام أيضاً قد ابتلي بتكذيب قومه اتبع قصته بقصة لوط بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٨٩
وإلى مدين﴾ أي : ولقد أرسلنا أو بعثنا إلى مدين ﴿أخاهم﴾ أي : من النسب والبلد ﴿شعيباً﴾ ومدين قيل : اسم رجل في الأصل وجهل وله ذرية فاشتهر في القبيلة كتميم وقيس وغيرهما، وقيل : اسم ماء نسب القوم إليه فاشتهر في القوم، قال الرازي : والأوّل كأنه أصح لأنّ الله تعالى أضاف الماء إلى مدين بقوله تعالى :﴿ولما ورد ماء مدين﴾ (القصص : ٢٣)
ولو كان اسماً للماء لكانت الإضافة غير صحيحة أو غير حقيقية والأصل في الإضافة التغاير والحقيقة، فإن قيل : قال تعالى في نوح :﴿ولقد أرسلنا نوحاً إلى قومه﴾ (القصص : ٢٣)
فقدم نوحاً في الذكر وعرف القوم بالإضافة إليه، وكذلك في إبراهيم ولوط وههنا ذكر القوم أولاً وأضاف إليهم أخاهم شعيباً، فما الحكمة في ذلك ؟
أجيب : بأنّ الأصل في الجميع أن يذكر القوم ثم يذكر رسولهم لأنّ الرسل لا تبعث إلى غير
١٩٢
معينين وإنما تبعث الرسل إلى قوم محتاجين إلى الرسل فيرسل الله تعالى إليهم من يختاره، غير أنّ قوم نوح وإبراهيم ولوط لم يكن لهم اسم خاصة ولا نسبة مخصوصة يعرفون بها فعرفوا بنبيهم عليه السلام فقيل قوم نوح وقوم لوط فأمّا قوم شعيب وهود وصالح فكان لهم نسب معلوم اشتهروا به عند الناس فجرى الكلام على أصله قال تعالى :﴿وإلى عاد أخاهم هوداً﴾ ﴿وإلى مدين أخاهم شعيباً﴾ ﴿فقال﴾ أي : فتسبب عن إرساله وبعثه أن قال :﴿يا قوم اعبدوا الله﴾ أي : الملك الأعلى وحده ولا تشركوا به شيئاً فإنّ العبادة التي فيها شرك ظاهر أو خفي عدم لأنّ الله تعالى أغنى الشركاء فهو لا يقبل إلا ما كان له خالصاً.