بيمينك ؟
أجيب : بأنه ذكر اليمين التي هي أقوى الجارحتين وهي التي يزاول بها الخط زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتباً، ألا ترى أنك إذا قلت في الإثبات رأيت الأمير يخط هذا الكتاب بيمينه كان أشّذ لإثباتك أنه تولى كتبه فكذلك النفي، وفي ذلك إشارة إلى أنه لا تحدث الريبة في أمره لعاقل إلا بالمواظبة القوية التي ينشأ عنها ملكه فكيف إذا لم يحصل أصل الفعل ولذلك قال تعالى :﴿إذاً﴾ أي : لو كنت ممن يخط ويقرأ ﴿لارتاب﴾ أي : شك ﴿المبطلون﴾ أي : اليهود فيك وقالوا : الذي في التوراة أنه أمّيّ لا يقرأ ولا يكتب، أو لارتاب مشركو مكة وقالوا لعله تعلمه أو التقطه من كتب الأوّلين وكتبه بيده.
فإن قيل : لم سماهم مبطلين ولو لم يكن أمياً وقالوا ليس بالذي نجده في كتبنا لكانوا صادقين محقين ولكان أهل مكة أيضاً على حق في قولهم لعله تعلمه أو كتبه بيده فإنه رجل كاتب قارئ ؟
أجيب : بأنه سماهم مبطلين لأنهم كفروا به وهو أمي بعيد من الريب فكأنه قال : هؤلاء المبطلون في كفرهم به لو لم يكن أمياً لارتابوا أشدّ الريب فحينئذٍ ليس بقارئ ولا كاتب فلا وجه لارتيابهم، وأيضاً سائر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لم يكونوا أميين ووجب الإيمان بهم وما جاؤوا به لكونهم مصدقين من جهة الحكيم بالمعجزات، فهب أنه قارئ كاتب فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الذي آمنوا منه بموسى وعيسى على أنّ المنزل إليهم معجز وهذا المنزل معجز فإذاً هم مبطلون حيث لم يؤمنوا وهو أمي ومبطلون حيث لم يؤمنوا وهو غير أمي، ولما كان التقدير ولكنه لا ريب لهم أصلاً ولا شبهة لقولهم أنه باطل قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٧
بل هو﴾ أي : القرآن الذي جئت به وارتابوا فيه فكانوا مبطلين لذلك على كل تقدير ﴿آيات﴾ أي : دلالات ﴿بينات﴾ أي : واضحات جدّاً في الدلالة على صدقك ﴿في صدور الذين أوتوا العلم﴾ أي : المؤمنين يحفظونه فلا يقدر أحد على تحريف شيء منه لبيان الحق لديهم، وفي ذلك إشارة إلى أن خفاءه عن غيرهم، وقال ابن عباس وقتادة : بل هو يعني محمداً ﷺ ذو آيات بينات في صدور الذين أوتوا العلم من أهل الكتاب لأنهم يجدونه بنعته ووصفه في كتبهم ﴿وما يجحد﴾ وكان الأصل به ولكنه أشار إلى عظمته بقوله تعالى :﴿بآياتنا﴾ أي : ينكرها بعد المعرفة على ما لها من العظمة بإضافتها إلينا والبيان الذي لا يجهله أحد ﴿إلا الظالمون﴾ أي : المتوغلون في الظلم المكابرون.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى ههنا ﴿إلا الظالمون﴾ ومن قبل قال ﴿إلا الكافرون﴾ ؟
أجيب : بأن ما من حرف ولا حركة في القرآن إلا وفيه فائدة ثم إنّ العقول البشرية تدرك بعضها ولا تصل إلى أكثرها وما أوتي البشر من العلم إلا قليلاً ولكن الحكمة هنا أنهم قبل بيان المعجزة قيل لهم إن لكم المزايا فلا تبطلوها بإنكار محمد ﷺ فتكونوا كافرين فلفظ الكافر هناك أبلغ فمنعهم عن ذلك استنكافهم عن الكفر، ثم بعد بيان المعجزة قال لهم : إن جحدتم هذه الآية لزمكم إنكار إرسال الرسل فتلتحقون في أوّل الأمر بالمشركين حكماً وتلتحقون عند جحد هذه الآيات بالمشركين حقيقة فتكونوا ظالمين أي : مشركين كما قال تعالى :﴿إنّ الشرك لظلم عظيم﴾ (لقمان : ١٣)
فهذا اللفظ ههنا أبلغ، ولما كان التقدير جحدوها بما لهم من الرسوخ في الظلم ولم يعدوها آيات فضلاً عن كونها بينات عطف عليه قوله تعالى :
﴿وقالوا﴾ موهمين مكراً إظهاراً للصفة بأدنى ما يدل على الصدق ﴿لولا﴾ أي : هلا ﴿أنزل عليه﴾ أي : محمد ﷺ على أيّ وجه كان من وجوه الإنزال ﴿آية﴾ تكون
١٩٩
بحيث تدل قطعاً على صدق الآتي بها ﴿من ربه﴾ أي : الذي يدعي إحسانه إليه كما أنزل على الأنبياء قبله كناقة صالح وعصا موسى ومائدة عيسى عليهم السلام ليستدل بها على صدق مقاله وصحة ما يدعيه من حاله، وقرأ نافع وأبو عمرو وابن عامر وحفص آيات بالجمع لأنّ بعده ﴿قل إنما الآيات﴾ بالجمع إجماعاً، والباقون آية بالإفراد لأنّ غالب ما جاء في القرآن كذلك، ولما كان هذا إنكاراً للشمس بعد شروقها ومكابرة فيما تحدى به من المعجزات بعد حقوقها أشار إليه بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ١٩٧
قل﴾ أي : لهم إرخاء للعنان حتى كأنك ما أتيتهم بشيء ﴿إنما الآيات عند الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ينزل أيتها شاء فلا يقدر على إنزال شيء منها غيره فإنما الإله هو لا سواه ولو شاء أن ينزل ما يقترحونه لفعل ﴿وإنما أنا ندير مبين﴾ أي : فليس من شأني إلا الإنذار وإبانته بما أعطيته من الآيات وليس لي أن أقترح عليه الآيات فأقول أنزل علي آية كذا دون آية كذا على أنّ المقصود من الآيات الدلالة على الصدق وهي كلها في حكم آية واحدة في ذلك، ولم يذكر البشارة لأنه ليس من أسلوبها وقوله تعالى :