جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠١
ولئن} اللام لام قسم ﴿سألتهم من نزل من السماء ماءً﴾ بعد أن كان مضبوطاً في جهة العلو ﴿فأحيا به الأرض﴾ الغبراء وأشار بإثبات الجار إلى قرب الإنبات من زمان الممات فقال :﴿من بعد موتها﴾ فصارت خضراء تهتز بعد أن لم يكن لها شيء من ذلك ﴿ليقولنّ الله﴾ معترفين بأنه الموجد للممكنات بأسرها أصولها وفروعها، ثم إنهم يشركون به بعض مخلوقاته الذي لا يقدر على شيء من ذلك فلما ثبت أنه الخالق بدءً وإعادة كما يشاهد في كل زمان قال منبهاً على عظمة صفاته اللازم من إثباتها صدق رسول الله ﷺ ﴿قل﴾ يا أفضل الخلق متعجباً منهم في جمودهم كيف يقرون بما يلزمهم التوحيد ثم لا يوحدون ؟
﴿الحمد لله﴾ الذي لا سميّ له وليس لغيره إحاطة من الأشياء فلزمتهم الحجة بما أقروا به من إحاطته وهم لا يثبتون ذلك بإعراضهم ﴿بل أكثرهم لا يعقلون﴾ فيناقضون حيث يقرون بأنه المبدئ لكل ما عداه ثم إنهم يشركون به غيره مما هم معترفون بأنه خلقه فهم لا يعرفون معنى الحمد حيث لم يعملوا به، ومنهم من آمن بعد ذلك فكان في الذروة من كمال العقل في التوحيد الذي يلزمه سائر الفروع، ومنهم من كان دون ذلك فكان نفي العقل عنه مقيداً بالكمال، ولما تبين بهذه الآيات أنّ الدنيا مبنية على الفناء والزوال والتقلع والارتحال وصح أن السرور بها في غير موضعه فلذلك قال مشيراً بعد سلب العقل عنهم إلى أنهم فيها كالبهائم يتهارجون :
﴿وما هذه الحياة الدنيا﴾ فحقرها بالإشارة ولفظ الدناءة مع الإشارة إلى هذا الاعتراف فهذا الاسم كاف
٢٠٦
في الإلزام بالاعتراف بالأخرى ﴿إلا لهو﴾ وهو الاستمتاع بلذات الدنيا ﴿ولعب﴾ وهو العبث وسميت بهما لأنها فانية، وقيل : اللهو الإعراض عن الحق، واللعب : الإقبال على الباطل، فإن قيل : قد قال تعالى في الأنعام :﴿وما الحياة الدنيا﴾ (آل عمران، ١٨٥) ولم يقل ﴿وما هذه الحياة﴾ وقال ههنا :﴿وما هذه الحياة﴾ فما فائدته أجيب بأن المذكور من قبل ههنا أمر الدنيا فأحيا به الأرض من بعد موتها فقال هذه والمذكور قبلها هناك الآخرة حيث قال ﴿يا حسرتنا على ما فرّطنا فيها وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم﴾ (الأنعام : ٣١)
فلم تكن الدنيا في ذلك الوقت في خاطرهم فقال تعالى :﴿وما الحياة الدنيا﴾، فإن قيل ما الحكمة في تقديمه هناك اللعب على اللهو وههنا أخر اللعب عن اللهو ؟
أجيب : بأنه لما كان المذكور من قبل هناك الآخرة وإظهارهم للحسرة ففي ذلك الوعد يبعد الاستغراق في الدنيا بل نفس الاشتغال بها فأخذ الأبعد، وههنا لما كان المذكور من قبل الدنيا وهي خداعة تدعو النفوس إلى الإقبال عليها والاستغراق فيها، اللهمّ إلا لمانع يمنع من الاستغراق فيشتغل بها من غير استغراق فيها أو لعاصم يعصمه فلا يشتغل بها أصلاً وكان الاستغراق أقرب من عدمه فقدم اللهو، ولما كانوا ينكرون الحياة بعد الموت أخبر على سبيل التأكيد أنه لا حياة غيرها بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٠١
وإن الدار الآخرة لهي﴾
أي : خاصة ﴿الحيوان﴾ أي : الحياة التامّة الباقية، فإن قيل ما الحكمة في قوله تعالى هناك ﴿ولدار الآخرة خير﴾ وقال ههنا :﴿وإنّ الدار الآخرة لهي الحيوان﴾ ؟
أجيب : بأنه لما كان الحاصل هناك حال إظهار الحسرة ما كان المكلف يحتاج إلى وازع قوي فقال : الآخرة خير، ولما كان الحال هنا حال الاشتغال بالدنيا احتاج إلى وازع قوي فقال لا حياة إلا حياة الآخرة، والحيوان مصدر حيي وقياسه حييان فقلبت الياء الثانية واواً وبه سمي ما فيه حياة حيواناً وهو أبلغ من الحياة لما في بناء فعلان من الحركة والاضطراب اللازم للحياة ولذلك اختير عليها ههنا، ولما كانوا قد غلطوا في الدارين كليهما فنزلوا كل واحدة منهما غير منزلتها فعدوا الدنيا وجوداً دائماً على هذه الحالة وعدوا الآخرة عدماً لا وجود لها بوجه قال تعالى :﴿لو كانوا يعلمون﴾ أي : لم يؤثروا عليها الدنيا التي أصلها عدم الحياة والحياة فيها عارضة سريعة الزوال، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى في الأنعام :﴿أفلا يعقلون﴾ وقال ههنا :﴿لو كانوا يعلمون﴾ ؟
أجيب : بأن المثبت هناك كون الآخرة خيراً ولأنه ظاهر لا يتوقف إلا على العقل والمثبت هنا أن لا حياة إلا حياة الآخرة وهذا دقيق لا يعرف إلا بعلم نافع.
﴿فإذا﴾ أي : فتسبب عن عدم عقلهم المستلزم لعدم علمهم إنهم إذا ﴿ركبوا﴾ البحر ﴿في الفلك﴾ أي : السفن ﴿دعوا الله﴾ أي : الملك الأعلى ﴿مخلصين﴾ بالتوحيد ﴿له الدين﴾ معرضين عن الشركاء بالقلب واللسان حيث لا يذكرون إلا الله ولا يدعون سواه لعلمهم بأنه لا يكشف الشدائد إلا هو ﴿فلما نجاهم﴾ أي : الله سبحانه وتعالى موصلاً لهم ﴿إلى البرّ إذا هم﴾ أي : حين
٢٠٧
الوصول إلى البرّ ﴿يشركون﴾ كما كانوا فهذا إخبار عنهم بأنهم عند الشدائد مقرون أن القادر على كشفها هو الله عز وجل وحده فإذا زالت عادوا إلى كفرهم.


الصفحة التالية
Icon