﴿في بضع سنين﴾ وهو ما بين الثلاث إلى التسع أو العشر، فالتقى الجيشان في السنة السابعة من الالتقاء الأوّل وغلبت الروم فارس، وسبب نزول هذه الآية على ما ذكره المفسرون أنه كان بين فارس والروم قتال وكان المشركون يودّون أن تغلب فارس لأن أهل فارس كانوا مجوساً أميين، والمسلمون يودّون غلبة الروم على فارس لكونهم أهل كتاب فبعث كسرى جيشاً إلى الروم واستعمل عليه رجلاً يقال له شهريار، وبعث قيصر جيشاً واستعمل عليه رجلاً يدعى بخنس، فالتقى مع شهريار بأذرعات وبصرى وهي أدنى الشام إلى أرض العرب فغلبت فارس الروم، وبلغ ذلك النبيّ ﷺ وأصحابه وهم بمكة فشق ذلك عليهم وكان النبيّ ﷺ يكره أن تظهر الأميون من المجوس على أهل الكتاب من الروم، وفرح كفار مكة وقالوا للمسلمين : إنكم أهل كتاب والنصارى أهل كتاب ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الروم ولنظهرن عليكم فنزلت هذه الآية. فخرج أبو بكر الصديق رضي الله تعالى عنه إلى الكفار فقال : فرحتم بظهور إخوانكم فلا تفرحوا فوالله لتظهرنّ الروم على فارس، أخبرنا بذلك نبينا ﷺ فقال له أبيّ بن خلف الجمحي : كذبت يا أبا فضيل فقال أبو بكر : أنت أكذب يا عدوّ الله فقال : اجعل بيننا أجلاً أناحبك عليه ـ والمناحبة المراهنة ـ فناحبه على عشر قلائص من كل واحد منهما فإن ظهرت الروم على فارس غرمتَ وإن ظهرت فارس غرمتُ وجعلا الأجل ثلاث سنين، فجاء أبو بكر إلى رسول الله ﷺ فأخبره بذلك فقال ما هكذا ذكرت إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ومادّه في الأجل، فخرج أبو بكر فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت قال : لا فتعال أزايدك في الخطر وأمادّك في الأجل فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين. وقيل : إلى سبع سنين قال : قد فعلت، فلما خشي أبيّ بن خلف أن يخرج أبو بكر من مكة أتاه فلزمه وقال : إني أخاف أن تخرج من مكة فأقم لي كفيلاً فكفله له ابنه عبد الله بن أبي بكر، فلما أراد أبيّ بن خلف أن يخرج إلى أُحد أتاه عبد الله بن أبي بكر فلزمه وقال : والله لا أدعك حتى تعطيني كفيلاً فأعطاه كفيلاً ثم خرج إلى أحد ثم رجع أبيّ بن خلف فمات بمكة من جراحته التي جرحه رسول الله ﷺ حين بارزه، وظهرت الروم على فارس يوم الحديبية وذلك عند رأس سبع سنين من مناحبتهم، وقيل كان يوم بدر فأخذ أبو بكر الخطر من ذرية أبيّ وجاء به إلى رسول الله ﷺ فقال تصدّق به، وهذه الآية من الآيات البينة الشاهدة على صحة النبوّة وأنّ القرآن من عند الله لأنه أنبأ عن علم الغيب الذي لا يعلمه إلا الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٠
فإن قيل : كيف صحت المناحبة وإنما هي قمار ؟
أجيب : بأن قتادة رحمه الله تعالى قال : كان ذلك قبل تحريم القمار، وقال الزمخشري : ومذهب أبي حنيفة ومحمد أن العقود الفاسدة من عقود الربا وغيرها جائزة في دار الحرب بين المسلمين والكفار وقد احتجا على صحة ذلك بما عقده أبو بكر رضي الله عنه بينه وبين أبي بن خلف. ولما كان تغلب ملك على ملك من الأمور الهائلة وكان الإخبار به قبل كونه أهول ذكر علة ذلك بقوله تعالى :﴿لله﴾ أي : وحده ﴿الأمر من قبل﴾ أي : قبل جولة فارس على الروم ثم دولة الروم على فارس ﴿ومن بعد﴾ أي : بعد دولة الروم عليهم ودولتهم على الروم، ولما أخبر تعالى بهذه المعجزة أخبر بمعجزة أخرى بقوله تعالى :﴿ويومئذ﴾ أي : تغلب الروم على فارس ﴿يفرح المؤمنون﴾ أي : العريقون في هذا الوصف من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم
﴿بنصر الله﴾ أي : الذي لا رادّ لأمره للروم على فارس، وقد فرحوا بذلك وعلموا به يوم
٢١١
وقوعه يوم بدر بنزول جبريل عليه السلام بذلك فيه مع فرحهم بنصرهم على المشركين فيه، قال السدي : فرح النبيّ ﷺ والمؤمنون بظهورهم على المشركين يوم بدر وظهور أهل الكتاب على أهل الشرك، وعن أبي سعيد الخدري : وافق ذلك يوم بدر وفي هذا اليوم نصر المؤمنون. ﴿ينصرُ من يشاء﴾ من ضعيف وقوي لأنه لا مانع له ولا يسأل عما يفعل، فالغلبة لا تدل على الحق بل الله قد يزيد ثواب المؤمن فيبتليه ويسلط عليه الأعادي، وقد يختار تعجيل العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر قبل يوم المعاد ﴿وهو العزيز﴾ فلا يعز من عادى ولا يذل من والى، وقرأ قالون وأبو عمرو والكسائي بسكون الهاء والباقون بالضم، ولما كان السياق لبشارة المؤمنين قال ﴿الرحيم﴾ فيخصهم بالأعمال الزكية والأخلاق المرضية.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٠


الصفحة التالية
Icon