تنبيه : قال هنا ﴿آيات لقوم يسمعون﴾ وقال تعالى من قبل ﴿لقوم يتفكرون﴾ وقال تعالى ﴿للعالمين﴾ لأنّ المنام بالليل والابتغاء يظن الجاهل أو الغافل أنهما مما يقتضيه طبع الحيوان فلا يظهر لكل أحد كونهما من نعم الله تعالى، فلم يقل آيات للعالمين، ولأن الأمرين الأولين وهما اختلاف الألسنة والألوان من اللوازم، والمنام والابتغاء من الأمور المفارقة، فالنظر إليهما لا يدوم لزوالهما في بعض الأوقات ولا كذلك اختلاف الألسنة والألوان فإنهما يدومان بدوام الإنسان فجعلهما آيات عليه، وأما قوله تعالى ﴿لقوم يتفكرون﴾ فإن من الأشياء ما يعلم من غير تفكر. ومنها ما يكفي فيه مجرّد الفكرة، ومنها ما يحتاج إلى موقف يوقف عليه ومرشد يرشد إليه فيفهمه إذا سمعه من ذلك المرشد، ومنها ما يحتاج بعض الناس في تفهمه إلى أمثال حسية كالأشكال الهندسية لأنّ خلق الأزواج لا يقع لأحد أنه بالطبع إلا إذا كان جامد الفكرة، فإذا تفكر علم كون ذلك الخلق آية، وأمّا المنام والابتغاء فقد يقع لكثير أنهما من أفعال العباد وقد يحتاج إلى مرشد معين لفكره فقال ﴿لقوم يسمعون﴾ ويجعلون بالهم من كلام المرشد، ولما ذكر تعالى العرضيات اللازمة للأنفس والمفارقة ذكر العرضيات التي للآفاق بقوله تعالى :
﴿ومن آياته﴾ الدالة على عظيم قدرته ﴿يريكم البرق﴾ أي : إراءتكم له على هيئآت وكيفيات
٢١٩
طال ما شاهدتموها تارة تأتي بما يضر وتارة بما يسر كما قال تعالى ﴿خوفاً﴾ أي : للإخافة من الصواعق المحرقة ﴿وطمعاً﴾ أي : وللإطماع في المياه العذبة ﴿وينزل من السماء ماء﴾ أي : الذي لا يمكن لأحد غيره دعواه، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي ﴿فيحيي به﴾ أي : بذلك الماء خاصة لأنّ أكثر الأرض لا يسقى بغيره ﴿الأرض﴾ أي : بالنبات الذي هو لها كالروح لجسد الإنسان ﴿بعد موتها﴾ أي : يبسها ﴿إن في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم العالي القدر ﴿لآيات﴾ لا سيما على القدرة على البعث ﴿لقوم يعقلون﴾ أي : يتدبرون فيستعملون عقولهم في استنباط أسبابها وكيفية تكوّنها ليظهر لهم كمال قدرة الصانع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٥
تنبيه : كما قدّم السماء على الأرض قدم ما هو من السماء وهو البرق والمطر على ما هو من الأرض وهو الإنبات والإحياء، وكما أن في إنزال المطر وإنبات الشجر منافع كذلك في تقديم الرعد والبرق على المطر منفعة، وهي أنّ البرق إذا لاح فالذي لا يكون تحت كن يخاف الابتلال فيستعد له، والذي له صهريج أو مصنع يحتاج إلى الماء، أو زرع يسوي مجاري الماء وأيضاً أهل البوادي لا يعلمون البلاد المعشبة إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب دون جانب.
واعلم أن دلائل البرق وفوائده وإن لم تظهر للمقيمين في البلاد فهي ظاهرة للبادين، فلهذا جعل تقديم البرق على تنزيل الماء من السماء نعمة وآية، فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا ﴿آيات لقوم يعقلون﴾ وفيما تقدم ﴿لقوم يتفكرون﴾ ؟
أجيب : بأنه لما كان حدوث الولد من الوالد أمراً عادياً مطرداً قليل الاختلاف كان يتطرق إلى الأوهام العامية أنّ ذلك بالطبيعة لأنّ المطرد أقوى إلى الطبيعة من المختلف، والبرق والمطر ليس أمراً مطرداً غير مختلف بل يختلف إذ يقع ببلدة دون بلدة، وفي وقت دون وقت، وتارة يكون قوياً وتارة يكون ضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار فقال هو آية لمن كان له عقل وإن لم يتفكر تفكراً تاماً، ثم ذكر تعالى من لوازم السماء والأرض قيامهما بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١٥
﴿ومن آياته﴾ أي : على تمام القدرة وكمال الحكمة ﴿أن تقوم السماء والأرض بأمره﴾ قال ابن مسعود، قامتا على غير عمد بأمره أي : بإرادته، فإنّ الأرض لثقلها يتعجب الإنسان من وقوفها وعدم نزولها وكون السماء في علوها يتعجب من علوها وثباتها من غير عمد وهذا من اللوازم، فإنّ الأرض لا تخرج عن مكانها الذي هي فيه، وإنما أفرد السماء والأرض لأنّ السماء الأولى والأرض الأولى لا تقبل النزاع ؛ لأنها مشاهدة مع صلاحية اللفظ بالكل لأنه جنس.
تنبيه : ذكر تعالى من كل باب أمرين أما من الأنفس فقوله تعالى ﴿خلقكم﴾ ﴿وخلق لكم﴾ واستدل بخلق الزوجين، ومن الآفاق السماء والأرض فقال تعالى ﴿خلق السموات والأرض﴾ (الروم : ٢٢)
ومن لوازم الإنسان اختلاف اللسان واختلاف الألوان ومن عوارض الآفاق البرق والأمطار، ومن لوازمهما قيام السماء والأرض ؛ لأنّ الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني يفيد الاستقرار، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين، فإنّ قول أحدهما يفيد الظنّ وقول الآخر يفيد تأكيده ولهذا قال إبراهيم عليه السلام ﴿بلى ولكن ليطمئن قلبي﴾ (البقرة : ٢٦٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٠
فإن قيل : ما الفائدة في قوله تعالى هنا ﴿ومن آياته أن تقوم﴾ (الروم : ٢٥)


الصفحة التالية
Icon