ولما كان محط الفائدة إلزامه سبحانه لنفسه بما تفضل به قدمه تعجيلاً للسرور وتطييباً للنفوس فقال تعالى ﴿وكان﴾ أي : على سبيل الثبات والدوام ﴿حقاً علينا﴾ أي : مما أوجبناه بوعدنا الذي لا خلف فيه ﴿نصر المؤمنين﴾ أي : العريقين في ذلك الوصف في الدنيا والآخرة، ولم يزل هذا دأبنا في كل ملة على مدى الدهر فليعتدّ هؤلاء لمثل هذا وليأخذوا لمثل ذلك أهبة لينظروا من المغلوب وهل ينفعهم شيء، روى الترمذي وحسنه عن رسول الله ﷺ أنه قال :"ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه إلا كان حقاً على الله أن يردّ عنه نار جهنم يوم القيامة ثم تلا قوله تعالى ﴿وكان حقاً علينا نصر المؤمنين﴾ قال البقاعي : فالآية من الاحتباك أي : وهو أن يؤتى بكلامين يحذف من كل منهما شيء يكون نظمهما بحيث يدل ما أثبت في كلٍ على ما حذف من الآخر، فحذف أوّلاً الإهلاك الذي هو أثر الخذلان لدلالة النصر عليه، وثانياً الإنعام لدلالة الانتقام عليه، ثم نبه تعالى على كمال قدرته فهو الناصر للمؤمنين بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
الله﴾ أي : وحده ﴿الذي يرسل﴾ مرة بعد أخرى ﴿الرياح﴾ مضطربة هائجة بعد أن كانت ساكنة ﴿فتثير سحاباً﴾ أي : تزعجه وتنشره ﴿فيبسطه﴾ بعد اجتماعه ﴿في السماء﴾ أي : جهة العلو ﴿كيف يشاء﴾ في أيّ ناحية شاء قليلاً تارة كمسير ساعة وكثيراً أخرى كمسير أيام على حسب إرادته واختياره لا مدخل فيه لطبيعة ولا غيرها ﴿ويجعله﴾ إذا أراد ﴿كسفاً﴾ أي : قطعاً غير متصل بعضها ببعض اتصالاً يمنع نزول الماء، وقرأ ابن عامر بسكون السين بخلاف عن هشام، والباقون بفتحها ﴿فترى﴾ بسبب إرسال الله له أو بسبب جعله ذا مسامّ وفروج يا من هو من أهل الرؤية، أو يا أشرف خلقنا الذي لا يعرف هذا حق معرفته سواه ﴿الودق﴾ أي : المطر ﴿يخرج من خلاله﴾ أي : السحاب الذي هو اسم جنس في حالتي الاتصال والانفصال ﴿فإذا أصاب﴾ أي : الله ﴿به﴾ أي : بالودق ﴿من﴾ أي : أرض من ﴿يشاء﴾ ونبه على أن ذلك فضل منه لا يجب عليه لأحد شيء أصلاً بقوله تعالى :﴿من عباده﴾ أي : الذين لم تزل عبادته واجبة عليهم جديرون بملازمة شكره والخضوع لأمره ﴿إذا هم يستبشرون﴾ أي : يظهر عليهم البشر وهو السرور الذي تشرق له البشرة حال الإصابة ظهوراً بالغاً عظيماً بما يرجونه مما يحدث عنه من الأثر النافع من الخصب والرطوبة واللين، ثم بين تعالى عجزهم بقوله تعالى :
﴿وإن﴾ أي : والحال أنهم ﴿كانوا﴾ في الزمن الماضي ﴿من قبل أن ينزل عليهم﴾ أي : المطر، وقرأ أبو عمرو وابن كثير بسكون النون وتخفيف الزاي، والباقون بفتح النون وتشديد الزاي. وقوله تعالى ﴿من قبله﴾ من باب التكرير والتأكيد كقوله تعالى ﴿فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها﴾ (الحشر : ١٧)
ومعنى التوكيد فيه الدلالة على أن عهدهم بالمطر قد تطاول بعدما استحكم بأسهم. وقوله تعالى ﴿لمبلسين﴾ إشارة إلى أنه تمادى إبلاسهم فكان الاستبشار على قدر اهتمامهم بذلك، وقبل الأولى ترجع إلى المطر والثانية إلى إنشاء السحاب فلا تأكيد.
﴿فانظر إلى آثار رحمت الله﴾ والرحمة : هي الغيث وأثرها هو النبات، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي بألف بعد الثاء المثلثة، والباقون بغير ألف ورسمت رحمت هذه مجرورة، فوقف ابن كثير وأبو عمرو والكسائي بالهاء والباقون بالتاء ﴿كيف يحيى﴾ أي : الله
٢٣١
﴿الأرض﴾ بإخراج النبات ﴿بعد موتها﴾ أي : يبسها ﴿إن ذلك﴾ أي : القادر العظيم الشأن الذي قدر على إحياء الأرض ﴿لمحيي الموتى﴾ كلها من الحيوانات والنباتات أي : ما زال قادراً على ذلك كما قال تعالى ﴿وهو على كل شيء﴾ من ذلك وغيره ﴿قدير﴾ لأنّ نسبة القدرة منه سبحانه وتعالى إلى كل ممكن على حد سواء، ولما بين أنهم عند توقف الخير يكونون آيسين وعند ظهوره يكونون مستبشرين بين أن تلك الحالة أيضاً لا يدومون عليها بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٢٩
﴿ولئن أرسلنا﴾ أي : بعد وجود هذا الأثر الحسن ﴿ريحاً﴾ عقيماً ﴿فرأوه﴾ أي : الأثر لأنّ الرحمة هي الغيث وأثرها هو النبات أو الزرع لدلالة السياق عليه ﴿مصفراً﴾ قد بدل وأخذ في التلف من شدّة يبس الريح إمّا بالحرّ أو البرد، وقيل : رأوا السحاب لأنه إذا كان مصفراً لم يمطر، ويجوز أن يكون الضمير للريح من التعبير بالسبب عن المسبب.