فيومئذ} أي : إذ يقع ذلك ويقول الذين أوتوا العلم تلك المقالة ﴿لا تنفع الذين ظلموا معذرتهم﴾ في إنكارهم له ﴿ولا هم يستعتبون﴾ أي : لا يطلب منهم الرجوع إلى ما يرضي الله تعالى كما دعوا إليه في الدنيا، من قولهم : استعتبني فلان فأعتبته أي : استرضاني فأرضيته، وقرأ الكوفيون لا ينفع بالياء التحتية لأنّ المعذرة بمعنى العذر ولأنّ تأنيثها غير حقيقي وقد فصل بينهما، والباقون بالتاء الفوقية، ثم أشار تعالى إلى إزالة الأعذار والإتيان بما فوق الكفاية من الإنذار وأنه لم يبق من جانب الرسول ﷺ تقصير بقوله تعالى :
﴿ولقد ضربنا﴾ أي : جعلنا ﴿للناس في هذا القرآن﴾ أي : في هذه السورة وغيرها ﴿من كل مثل﴾ أي : معنى غريب هو أوضح وأثبت من أعلام الجبال في عبارة هي أرشق من سائر الأمثال، فإن طلبوا شيئاً آخر غير ذلك فهو عناد محض ؛ لأنّ من كذب دليلاً حقاً لا يصعب عليه تكذيب الدلائل بل لا يجوز للمستدل أن يشرع في دليل آخر بعد ذكره دليلاً جيداً مستقيماً ظاهراً لا إشكال عليه وعانده الخصم وهذا من العالم فكيف بالنبيّ صلى الله عليه وسلم
فإن قيل : الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ذكروا أنواعاً من الدلائل ؟
أجيب : بأنهم سردوها سرداً ثم قرروا فرداً فرداً كمن يقول : الدليل عليه من وجوه الأوّل : كذا، والثاني : كذا، والثالث : كذا، وفي مثل هذا عدم الالتفات إلى عناد المعاند ؛ لأنه يريد تضييع الوقت كي لا يتمكن المستدل من الإتيان بجميع ما وعد من الدليل فتنحط درجته، وإلى هذا أشار بقوله تعالى :﴿ولئن﴾ اللام لام قسم ﴿جئتهم﴾ يا أفضل الخلق ﴿بآية﴾ مثل العصا واليد لموسى عليه السلام ﴿ليقولنّ الذين كفروا﴾ منهم ﴿إن﴾ أي : ما ﴿أنتم إلا مبطلون﴾ أي : أصحاب أباطيل، فإن قيل : لم وحد في قوله تعالى ﴿جئتهم﴾ وجمع في قوله تعالى ﴿إن أنتم﴾ ؟
أجيب : بأنّ ذلك لنكتة وهي أنه تعالى أخبر في موضع آخر فقال :﴿ولئن جئتهم بكل آية﴾ أي : جاءت بها الرسل فقال الكفار : ما أنتم أيها المدّعون الرسالة كلكم إلا كذا. وقال الجلال المحلي : إن أنتم أي : محمد وأصحابه، وأمّا الذين آمنوا فيقولون نحن بهذه الآية مؤمنون.
﴿كذلك﴾ أي : مثل هذا الطبع العظيم ﴿يطبع الله﴾ أي : الذي له العظمة والكمال ﴿على قلوب الذين لا يعلمون﴾ توحيد الله، فإن قيل : من لا يعلم شيئاً أي : فائدة في الإخبار عن الطبع على قلبه ؟
أجيب : بأنّ معناه أنّ من لا يعلم الآن فقد طبع على قلبه من قبل. ثم إنه تعالى سلّى نبيه ﷺ بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٣٢
فاصبر﴾ أي : على إنذارهم مع هذا الجفاء
٢٣٥
والردّ بالباطل والأذى فإنّ الكل فعلنا لم يخرج منه شيء عن إرادتنا ﴿إنّ وعد الله﴾ أي : الذي له الكمال كله بنصرك وإظهار دينك على الدين كله وفي كل ما وعد به ﴿حق﴾ أي : ثابت جدّاً يطابقه الواقع كما يكشف عنه الزمان وتأتي به مطايا الحدثان. ولما كان التقدير فلا تعجل عطف عليه قوله تعالى ﴿ولا يستخفنك﴾ أي : يحملنك على الخفة ويطلب أن تخف باستعجال النصر خوفاً من عواقب تأخيره وتنفيرك عن التبليغ ﴿الذين لا يوقنون﴾ أي : أذى الذين لا يصدقون بوعدنا من البعث والحشر وغير ذلك تصديقاً ثابتاً في القلب بل هم إما شاكون وأدنى شيء يزلزلهم كمن يعبد الله على حرف، أو مكذبون فهم بالغون في العداوة والتكذيب حتى إنهم لا يصدّقون في وعد الله بنصر الروم على فارس كأنهم على ثقة وبصيرة من أمرهم في أنّ ذلك لا يكون. فإذا صدق الله وعده في ذلك بإظهاره عن قرب علموا كذبهم عياناً، وعلموا إن كان لهم علم أنّ الوعد بالساعة لإقامة العدل على الظالم والعود بالفضل على المحسن كذلك يأتي وهم صاغرون ويحشرون وهم داخرون.
﴿وسيعلم الذين ظلموا أي : منقلب ينقلبون﴾ فقد انعطف آخر السورة على أوّلها واتصل به اتصال القريب بالقريب. وها أنا أسأل الله تعالى القريب المجيب أن يغفر ذنوب من كتب هذا وهو محمد الشربيني الخطيب ويفعل ذلك بوالديه وأولاده ومشايخه وكل محب له وحبيب، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشريّ عن النبي ﷺ "من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات بعدد كل ملك يسبح الله بين السماء والأرض وأدرك ما صنع في يومه وليلته" حديث موضوع رواه الثعلبيّ في تفسيره والله تعالى أعلم بالصواب.
٢٣٦
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٣٢