جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١
أم تحسب أن أكثرهم} أي : هؤلاء المدعوّين ﴿يسمعون﴾ أي : سماع من ينزجر ولو كان غير عاقل كالبهائم ﴿أو يعقلون﴾ أي : كالبهائم ما يرون، وإن لم يكن لهم سمع حتى تطمع في رجوعهم باختيارهم من غير قسر فإن قيل : إنه تعالى لما نفى عنهم السمع والعقل فكيف ذمهم على الإعراض عن الدين وكيف بعث إليهم الرسول، فإن من شرط التكليف العقل ؟
أجيب : بأنه ليس المراد أنهم لا يعقلون شيئاً بل المراد أنهم لم ينتفعوا بذلك العقل، فهو كقول الرجل لغيره إذا لم يفهم : إنما أنت أعمى وأصم فإن قيل : لم خص الأكثر بذلك دون الكل ؟
أجيب : بأنه كان منهم من آمن، ومنهم من عقل الحق فكابر استكباراً وخوفاً على الرياسة.
ولما كان هذا الاستفهام مفيداً للنفي استأنف ما أفهمه بقوله تعالى :﴿إن﴾ أي : ما ﴿هم إلا كالأنعام﴾ أي : في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم وعدم تدبرهم فيما شاهدوا من الدلائل والمعجزات ﴿بل هم أضل﴾ أي : منها ﴿سبيلاً﴾ لأنها تنقاد لمن يتعهدها، وتميز من يحسن إليها ممن يسيء إليها، وتطلب ما ينفعها وتجتنب ما يضرها وتهتدي لمراعيها ومشاربها، وهؤلاء لا ينقادون لربهم ولا يعرفون إحسانه إليهم من إساءة الشيطان الذي هو عدوهم، ولا يطلبون الثواب الذي هو أعظم المنافع ولا يتقون العقاب الذي هو أشد المضار والمهالك، ولا يهتدون للحق الذي هو المشرع الهني والعذب الروي، ولما بين تعالى جهل المعرضين عن دلائل التوحيد وبين فساد طريقهم ذكر أنواعاً من الدلائل على وجود الصانع أولها : الاستدلال بالنظر إلى حال الظل مخاطباً رأس المخلصين الناظرين هذا النظر حثاً لأهل وده على مثل ذلك بقوله تعالى :
﴿ألم ترَ﴾ أي : تنظر ﴿إلى ربك﴾ أي : إلى صنعه وقدرته ﴿كيف مد الظل﴾ وهو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس بجعله ممدوداً ؛ لأنه ظل لا شمس معه، كما قال تعالى في ظل الجنة :﴿وظل ممدود﴾ (الواقعة، ٣٠)
إذ لم يكن معه شمس وإن كان بينهما فرق وهو الليل لأن ظل الأرض الممدود على قريب من نصف وجهها مدة تحجب نور الشمس عما قابل قرصها من الأرض حتى امتد بساطه وضرب فسطاطه كما حجب ظل ضلالهم أنوار عقولهم وغفلة طباعهم نفوذ أسماعهم ﴿ولو شاء لجعله﴾ أي : الظل ﴿ساكناً﴾ أي : دائماً ثابتاً لا يزول ولا تذهبه الشمس لاصقاً بأصل كل مظل من جبل وبناء وشجر غير منبسط فلم ينتفع به أحد، سمى انبساط الظل وامتداده تحركاً منه وعدم ذلك سكوناً لكنه تعالى لم يشأ بل جعله متحركاً كما يسوق الشمس له، وقال أبو عبيدة : الظل ما نسخته الشمس وهو بالغداة، والفيء ما نسخ الشمس وهو بعد الزوال سمي فيئاً ؛ لأنه فاء من جانب المشرق إلى جانب المغرب ﴿ثم جعلنا الشمس عليه﴾ أي : الظل ﴿دليلاً﴾ أي : أن الناس يستدلون بالشمس وأحوالها في مسيرها على
٢٣
أحوال الظل من كونه ثابتاً في مكان أو زائلاً ومتسعاً أو متقلصاً فلو لم تكن الشمس لما عرف الظل ولولا النور لما عرفت الظلمة، والأشياء تعرف بأضدادها.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢١
ثم قبضناه﴾ أي : الظل ﴿إلينا﴾ أي : إلى الجهة التي أردنا لا يقدر أحد غيرنا أن يحوله إلى جهة غيرها، والقبض جمع المنبسط من الشيء ومعناه أن الظل يعم جميع الأرض قبل طلوع الشمس، فإذا طلعت قبض الله الظل ﴿قبضاً يسيراً﴾ أي : على مهل، وفي هذا القبض اليسير شيئاً بعد شيء من المنافع ما لم يعد ولا يحصى، ولو قبض دفعة واحدة لتعطلت أكثر مرافق الناس بالظل والشمس جميعاً، وقيل : المراد من قبضها يسيراً قبضها عند قيام الساعة، وذلك بقبض أسبابها وهي الأجرام التي تلقي الظلال، وقوله تعالى : يسيراً كقوله تعالى :﴿حشر علينا يسير﴾ (ق، ٤٤)
فإن قيل : ثم في هذين الموضعين كيف موقعها ؟
أجيب : بأن موقعها بيان تفاضل الأمور الثلاثة كان الثاني أعظم من الأول والثالث أعظم منهما تشبيهاً لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت، ولما تضمنت هذه الآية الليل والنهار وهو النوع الثاني قال تعالى مصرحاً بهما :
﴿وهو﴾ أي : ربك المحسن إليك وحده ﴿الذي جعل﴾ دليلاً على الحق وإظهاراً للنعمة على الخلق ﴿لكم الليل﴾ أي : الذي تكامل به مد الظل ﴿لباساً﴾ أي : ساتراً للأشياء، شبه ظلامه باللباس في ستره ﴿والنوم سباتاً﴾ أي : راحة للأبدان بقطع المشاغل، وهو عبارة عن كونه موتاً أصغر طاوياً لما كان من الإحساس قاطعاً لما كان من الشعور والتقلب فيه دلائل لأهل البصائر، قال البغوي وغيره : وأصل السبت القطع، وفي جعله تعالى لذلك من الفوائد الدينية والدنيوية ما لا يعد ولا يحصى، وكذا في قوله تعالى :﴿وجعل﴾ أي : وحده ﴿النهار نشوراً﴾ أي : منشوراً فيه لابتغاء الرزق وغيره، وفي ذلك إشارة إلى أن النوم واليقظة أنموذجان للموت والنشور. يحكى أن لقمان قال لابنه : يا بني كما تنام فتوقظ كذلك تموت فتنشر، ثم ذكر النوع الثالث بقوله تعالى :