وقيل : كان النضر يشتري المغنيات ولا يظفر بأحد يريد الإسلام إلا انطلق به إلى قينة فيقول : أطعميه واسقيه وغنيه ويقول : هذا خير لك مما يدعوك إليه محمد من الصلاة والصيام وأن تقاتل بين يديه، وعن أبي أمامة قال قال رسول الله ﷺ "لا يحل تعليم المغنيات ولا بيعهنّ وأثمانهنّ حرام" وفي مثل هذا نزلت الآية وما من رجل يرفع صوته بالغناء إلا بعث الله عليه شيطانين أحدهما على هذا المنكب والآخر على هذا المنكب فلا يزالان يضربانه بأرجلهما حتى يكون هو الذي يسكت"، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ رسول الله ﷺ "نهى عن ثمن الكلب وكسب المزمار" وقال مكحول : من اشترى جارية ضرابة ليمسكها لغنائها وضربها مقيماً عليه حتى يموت لم أصل عليه إن الله تعالى ليقول ﴿ومن الناس من يشتري لهو الحديث﴾ الآية، وعن الحسن وغيره قالوا : لهو الحديث هو الغناء، والآية نزلت فيه ومعنى يشتري لهو الحديث يستبدل ويختار الغناء والمزامير والمعازف على القرآن، وقال أبو الصهباء : سألت ابن مسعود عن هذه الآية فقال : هو الغناء والله الذي لا إله إلا هو يردّدها ثلاث مرّات. وقال إبراهيم النخعيّ : الغناء ينبت النفاق في القلب، قال وكان أصحابنا يأخذون بأفواه السكك يخرقون الدفوف، وقال ابن جريج : لهو الحديث هو الطبل، وقال الضحاك : هو الشرك، وقال قتادة : هو كل لهو ولعب، وقيل : الغناء منفدة للمال مسخطة للرّب مفسدة للقلب ﴿ليضلّ عن سبيل الله﴾ أي : الطريق الواضح الموصل للملك الأعلى المستجمع لصفات الكمال ضدّ ما كان عليه المحسنون من الهدى، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء قبل الضاد من الضلالة بمعنى ليثبت على ضلاله، والباقون بضمها، ونكر قوله تعالى ﴿بغير علم﴾ ليفيد السلب العامّ لكل نوع من أنواع العلم أي : لأنه لا علم بشيء من حال السبيل ولا حال غيرها علماً يستحق إطلاق العلم عليه، فإن قيل : ما معنى قوله تعالى بغير علم ؟
أجيب : بأنه تعالى لما جعله مشترياً لهو الحديث بالقرآن قال يشتري بغير علم بالتجارة بغير بصيرة بها حيث يستبدل الضلال بالهدى والباطل بالحق. ونحوه قوله تعالى ﴿فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين﴾ (البقرة : ١٦)
أي : وما كانوا مهتدين بالتجارة وبصراء بها ﴿ويتخذها﴾ أي : السبيل التي لا أشرف منها مع ما ثبت له من الجهل المطلق ﴿هزواً﴾ أي : مهزوّا بها، وقرأ حمزة والكسائي
٢٣٩
وحفص بنصب الذال عطفاً على يضلّ، والباقون بالرفع على يشتري، وسكن حمزة زاي هزواً وضمها الباقون، ولما انفتح هذا الشقاء الدائم بينه بقوله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء البعداء البغضاء ﴿لهم عذاب مهين﴾ لإهانتهم الحق باستثناء الباطل عليه، ولما كان الإنسان قد يكون غافلاً فإذا نبه انتبه نبه سبحانه وتعالى على أن هذا الإنسان المنهمك في أسباب الخسران لا يزداد على ممرّ الزمان إلا مفاجأة لكل ما يرد عليه من البيان بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٣٧
وإذا تتلى عليه آياتنا﴾ أي : تتجدّد عليه تلاوتها أي : تلاوة القرآن من كل تال كان ﴿ولى﴾ أي : بعد السماع مطلق التولية سواء كان على المجانبة أو مدبراً ﴿مستكبراً﴾ أي : طالباً للكبر موجداً له بالإعراض عن الطاعة ﴿كأن﴾ أي : كأنه لم ﴿يسمعها﴾ فهو لم يزل على حالة الكبر ﴿كأن في أذنيه وقراً﴾ أي : صمماً يستوي معه تكليم غيره له وسكوته (تنبيه) : جملتا التشبيه حالان من ضمير ولى، أو الثانية بيان للأولى. وقرأ نافع بسكون الذال، والباقون بضمنها، ولما تسبب عن ذلك استحقاقه لما يزيل كبره وعظمته قال تعالى ﴿فبشره﴾ أي : أعلمه ﴿بعذاب أليم﴾ أي : مؤلم، وذكر البشارة تهكم به وهو النضر بن الحارث كما مرّت الإشارة إليه، ولما بين تعالى حال المعرض عن سماع الآيات بين حال من يقبل على تلك الآيات بقوله تعالى :
﴿إن الذين آمنوا﴾ أي : أوجدوا الإيمان ﴿وعملوا﴾ أي : تصديقاً له ﴿الصالحات لهم جنات﴾ أي : بساتين ﴿النعيم﴾ أي : نعيم جنات فعكس للمبالغة كما أنّ لهؤلاء العذاب المهين، ووحد العذاب وجمع الرحمة إشارة إلى أنّ الرحمة واسعة أكثر من الغضب، ولما كان ذلك قد لا يكون دائماً وكان السرور بشيء قد ينقطع قال تعالى :
﴿خالدين فيها﴾ أي : دائماً، وقوله تعالى ﴿وعد الله﴾ أي : الذي لا شيء أجل منه مصدر مؤكد لنفسه ؛ لأنّ قوله تعالى جنات في معنى وعدهم الله تعالى ذلك وقوله تعالى ﴿حقاً﴾ مصدر مؤكد لغيره أي : لمضمون تلك الجملة الأولى وعاملهما مختلف، فتقدير الأولى : وعد. الله ذلك وعداً. وتقدير الثانية : أحق ذلك حقاً فأكد نعيم الجنات ولم يؤكد العذاب المهين ﴿وهو العزيز﴾ أي : فلا يغلبه شيء ﴿الحكيم﴾ أي : الذي لا يضع شيئاً إلا في محله، ولما ختم بصفتي العزة وهي غاية القدرة و الحكمة وهي ثمرة العلم دل عليهما بإتقان أفعاله بقوله تعالى :