وأخرج أحمد عن هشام ابن عروة عن أبيه قال : مكتوب في الحكمة يعني حكمة لقمان عليه السلام لتكن كلمتك طيبة وليكن وجهك بسيطاً تكن أحب إلى الناس ممن يعطيهم العطايا. وقال : مكتوب في الحكمة أو في التوراة الرفق رأس الحكمة، وقال : مكتوب في التوراة كما تَرحمون تُرحمون، وقال : مكتوب في الحكمة كما تزرعون تحصدون، وقال : مكتوب في الحكمة أحبب خليلك وخليل أبيك، وقيل للقمان : أي الناس شر ؟
قال : الذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئاً، ومن حكمته أنه قال : أقصر عن اللجاجة ولا أنطق فيما لا يعنيني ولا أكون مضحاكاً من غير عجب ولا مشاء لغير أرب، ومنها من كان له من نفسه واعظ كان له من الله حافظ ومن أنصف الناس من نفسه زاده الله بذلك عزاً، والذل في طاعة الله أقرب من التعزز بالمعصية، ومنها أنه كان يقول ثلاثة لا يعرفون إلا في ثلاثة مواطن : الحليم عند الغضب، والشجاع عند الحرب، وأخوك عند حاجتك إليه.
ولما كان ما أحكمه لولده عظيم الجدوى وجعل ختامه الصبر الذي هو ملاك الأعمال نبه بذلك بقوله على سبيل الاستئناف أو التعليل ﴿إن ذلك﴾ أي : الأمر العظيم الذي أوصيك به لا سيما الصبر على المصائب ﴿من عزم الأمور﴾ أي : معزوماتها تسمية لاسم المفعول أو الفاعل بالمصدر أي : الأمور المقطوع بها المفروضة، أو القاطعة الجازمة وبجزم فاعلها، ثم حذره عن الكبر معبراً عنه بلازمه لأن نفي الأعم نفي للأخص بقوله."
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤١
ولا تصعر خدّك﴾ أي : لا تمله متعمداً إمالته بإمالة العنق متكلفاً لها صرفاً عن الحالة القاصدة، قال أبو عبيدة : وأصل الصعر داء يصيب البعير يلوى منه عنقه، وقرأ ابن كثير وابن عامر وعاصم بغير ألف بعد الصاد وتشديد العين، والباقون بألف بعد الصاد وتخفيف العين، والرسم يحتملها فإنه رسم بغير ألف
٢٤٧
وهما لغتان لغة الحجاز التخفيف، وتميم التثقيل، ولما كان ذلك قد يكون لغرض من الأغراض التي لا تدوم أشار إلى المقصود بقوله ﴿للناس﴾ بلام العلة أي : لا تفعل ذلك لأجل الإمالة عنهم وذلك لا يكون إلا تهاوناً بهم من الكبر بل أقبل عليهم بوجهك كله مستبشراً منبسطاً من غير كبر ولا عتو، وعن ابن عباس لا تتكبر فتحقر الناس وتعرض عنهم بوجهك إذا كلموك، وقيل هو الرجل يكون بينك وبينه الشحنة فيلقاك فتعرض عنه، وقيل هو الذي إذا سلم عليه لوى عنقه تكبراً، وقيل معناه : لا تحقر الفقير، ليكن الفقير والغني عندك سواء، ثم أتبع ذلك ما يلزمه بقوله ﴿ولا تمش﴾ وأشار بقوله ﴿في الأرض﴾ إلى أنّ أصله تراب وهو لا يقدر أن يعدوه وسيصير إليه وأوقع المصدر موقع الحال والعلة في قوله ﴿مرحاً﴾ أي : اختيالاً وتبختراً أي : لا تكن منك هذه الحقيقة لأن ذلك مشي أشر بطر متكبر فهو جدير بأن يظلم صاحبه ويفحش ويبغي بل أمش هوناً فإن ذلك يفضي بك إلى التواضع فتصل إلى كل خير فترفق بك الأرض إذا صرت في بطنها ﴿إنّ الله﴾ أي : الذي له الكبرياء والعظمة ﴿لا يحب﴾ أي : يعذب ﴿كل مختال﴾ أي : مراء للناس في مشيه متبختر يرى له فضلاً على الناس ﴿فخور﴾ على الناس بنفسه يظن أن إسباغ النعم الدنيوية من محبة الله تعالى له وذلك من جهله، فإن الله يسبغ نعمه على الكافر الجاحد فينبغي للعارف أن لا يتكبر على عباده فإن الكبر هو الذي تردى به سبحانه فمن نازعه فيه قصمه، ولما كان النهي عن ذلك أمراً بضدّه قال :
﴿واقصد﴾ أي : اقتصد واسلك الطريق الوسطى ﴿في مشيك﴾ بين ذلك قواماً أي : ليكن مشيك قصداً لا تخيلاً ولا إسراعاً أي : بين مشيين لا تدب دبيب المتماوتين ولا تثب وثب الشطار، قال ﷺ "سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن" وأمّا قول عائشة في عمر رضي الله تعالى عنهما : كان إذا مشى أسرع، فإنما أرادت السرعة المرتفعة عن دبيب المتماوت، وقال عطاء : امش بالوقار والسكينة لقوله تعالى يمشون : على الأرض هوناً وعن ابن مسعود : كانوا ينهون عن وثب اليهود ودبيب النصارى، والقصد في الأفعال كالقسط في الأوزان، قاله الرازي : في اللوامع وهو المشي الهون الذي ليس فيه تصنع للخلق لا بتواضع، ولا بتكبر ﴿واغضض﴾ أي : انقص ﴿من صوتك﴾ لئلا يكون صوتك منكراً وتكون برفع الصوت فوق الحاجة كالأذان فهو مأمور به، وكانت الجاهلية يتمدحون برفع الصوت قال القائل :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٤١
جهير الكلام جهير العطاس ** جهير الروى جهير النغم*
وقال مقاتل : اخفض من صوتك، فإن قيل : لم ذكر المانع من رفع الصوت ولم يذكر المانع من سرعة المشي ؟
أجيب : بأن رفع الصوت يؤذي السامع ويقرع الصماخ بقوته وربما يخرق الغشاء الذي داخل الأذن، وأما سرعة المشي فلا تؤذي وإن آذت فلا تؤذي غير من في طريقه، والصوت يبلغ من على اليمين واليسار ولأنّ المشي يؤذي آلة المشي، والصوت يؤذي آلة السمع وآلة السمع على باب القلب فإنّ الكلام ينتقل من السمع إلى القلب، ولا كذلك المشي. وأيضاً فلأن قبح القول
٢٤٨