وقيل : إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر ؛ وذلك لأن من نفد أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله :﴿في يوم كان مقداره ألف سنة﴾ يعني : يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة، فكم يكون شهر منه وكم يكون سنة منه وكم يكون دهر منه ؟
وعلى هذا فلا فرق بين هذا وبين قوله :﴿مقداره خمسين ألف سنة﴾ لأن ذلك إذا كان إشارة إلى دوام نفاذ الأمر فسواء يعبر بألف سنة أو بخمسين ألف سنة لا يتفاوت، إلا أن المبالغة بالخمسين أكثر، وسيأتي بيان فائدتها في موضعها إن شاء الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦١
ولما تقرر هذا من عالم الأشباح والخلق، ثم عالم الأرواح والأمر بيّن أنه تعالى عالم بما كان وما يكون بقوله تعالى :
﴿ذلك﴾ أي : الإله الواحد القهار، ﴿عالم الغيب والشهادة﴾ أي : ما غاب عن الخلق، ومنه الذي تقدمت مفاتيحه وما حضر وظهر فيدبر أمرهما ﴿العزيز﴾ أي : الغالب على أمره ﴿الرحيم﴾ على العباد في تدبيره، وفيه إيماء بأنه تعالى يراعي المصالح تفضلاً وإحساناً.
ولما ذكر تعالى الدليل على الوحدانية من الآفاق بقوله تعالى :﴿خلق السموات والأرض وما بينهما﴾ ذكر الدليل عليها من الأنفس بقوله تعالى :
﴿الذي أحسن كل شيء خلقه﴾ قال ابن عباس : أتقنه وأحكمه، فجميع المخلوقات حسنة وإن تفاوتت إلى حسن وأحسن كما قال تعالى :﴿لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم﴾ (التين : ٤)
وقال مقاتل : علم كيف يخلق كل شيء من قول القائل : فلان يحسن كذا إذا كان يتقنه، وقيل : خلق كل حيوان على صورة لم يخلق البعض على صورة البعض، وقيل : معناه أحسن إلى كل خلقه.
وقرأ نافع والكوفيون بفتح اللام فعلاً ماضياً، والجملة صفة للمضاف أو المضاف إليه، والباقون بسكونها على أنه بدل من كل شيء بدل اشتمال والضمير عائد على كل شيء.
ولما كان الحيوان أشرف الأجناس وكان الإنسان أشرفه خصه بالذكر ليقوم دليل الوحدانية
٢٦٤
بالأنفس كما قام بالآفاق. فقال دالاً على البعث :﴿وبدأ خلق الإنسان﴾ أي : آدم عليه السلام ﴿من طين﴾ قال الرازي : ويمكن أن يقال الطين ماء وتراب مجتمعان، فالآدمي أصله مني، والمني أصله غذاء، والأغذية إما حيوانية أو نباتية، والحيوانية ترجع إلى النباتية والنبات وجوده بالماء والتراب الذي هو الطين.
﴿ثم جعل نسله﴾ أي : ذريته ﴿من سلالة﴾ أي : نطفة سميت سلالة لأنها تسل من الإنسان أي : تنفصل منه وتخرج من صلبه، ونحوه قولهم للولد : سليل، هذا على التفسير الأول ؛ لأن آدم كان من الطين ونسله من سلالة ﴿من ماء مهين﴾ أي : ضعيف، وعلى التفسير الثاني هو أن أصله من طين، ثم يوجد من ذلك الأصل سلالة هي ماء مهين وهو نطفة الرجل، وأشار إلى عظمة ما بعد ذلك من خلقه وتطويره بقوله تعالى :
﴿ثم سواه﴾ قومه بتصوير أعضائه وإبداع المعاني على ما ينبغي ﴿ونفخ فيه﴾ أي : آدم ﴿من روحه﴾ أي : جعله حياً حساساً بعد أن كان جماداً، وإضافة الروح إلى الله تعالى إضافة تشريف كبيت الله، وناقة الله، فيا له من شرف ما أعلاه، ففيه إشعار بأنه خلق عجيب وإن له شأناً له مناسبة ما إلى الحضرة الربوبية، قال البيضاوي : ولأجله أي : ولأجل كون أن له شأناً إلى آخره. روي : من عرف نفسه فقد عرف ربه. هذا الحديث لا أصل له، وبتقدير أن له أصلاً ليس معناه ما ذكر بل معناه : من عرف نفسه وتأمل في حقيقتها عرف أن له صانعاً موجداً له، وإليه أشار بقوله تعالى :﴿وفي أنفسكم أفلا تبصرون﴾ (الذاريات : ٢١)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦١
ثم ذكر ما يترتب على نفخ الروح في الجسد مخاطباً للذرية بقوله تعالى :﴿وجعل لكم﴾ بعد أن كنتم نطفاً أمواتاً ﴿السمع﴾ أي : لتدركوا به ما يقال لكم ﴿والأبصار﴾ أي : لتدركوا بها الأشياء على ما هي عليه ﴿والأفئدة﴾ أي : القلوب المودعة غرائز العقول.
فإن قيل : ما الحكمة في تقديم السمع على البصر والبصر على الأفئدة ؟
أجيب بأن الإنسان يسمع أولاً كلاماً فينظر إلى قائله ليعرفه ثم يتفكر بقلبه في ذلك الكلام ليفهم معناه، فإن قيل : ما الحكمة في ذكره المصدر في السمع وفي البصر والفؤاد الاسم، ولهذا جمع الأبصار والأفئدة ولم يجمع السمع ؛ لأن المصدر لا يجمع ؟
أجيب : بأن السمع قوة واحدة ولها محل واحد وهو الأُذن ولا اختيار لها فيه، وإن الصوت من أي جانب كان واصل إليه ولا قدرة للأُذن على تخصيص السمع بإدراك البعض دون البعض، وأما البصر فمحله العين ولها فيه اختيار فإنها تتحرك إلى جانب المرئي دون غيره، وكذلك الفؤاد محله الإدراك وله نوع اختيار يلتفت إلى ما يريدون غيره.


الصفحة التالية
Icon