تنبيه : أصل يذكروا يتذكروا أدغمت التاء في الذال وقرأ حمزة والكسائي بسكون الذال ورفع الكاف مخففة، والباقون بفتح الذال والكاف مشددتين ﴿فأبى﴾ أي : لم يرد ﴿أكثر الناس﴾ أي : بعبادتهم ﴿إلا كفوراً﴾ أي : جحوداً للنعمة وقلة الاكتراث بها وكفرانهم هو أنهم إذا مطروا قالوا : مطرنا بنوء كذا وهو بفتح النون وهمزة آخره وقت النجم الفلاني على عادة العرب في إضافة المطر إلى الأنواء فيكره أن يقول ذلك لإيهامه أن النوء فاعل المطر حقيقة، فإن اعتقد أنه الفاعل له حقيقة كفر، روى زيد بن خالد الجهني قال :"صلى بنا رسول الله ﷺ صلاة الصبح بالحديبية في أثر سماء كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال : هل تدرون ماذا قال ربكم الليلة ؟
قالوا : الله ورسوله أعلم قال : قال أصبح من عبادي من هو مؤمن بي وكافر بي، فأما من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكواكب، وأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي وكافر بالكواكب"، وأفاد تعليق الحكم بالباء أنه لو قال : مطرنا في نوء كذا لم يكره، ونقل الشافعي عن بعض الصحابة أنه كان يقول عند المطر : مطرنا بنوء الفتح، ثم يقرأ :﴿ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها﴾ (فاطر، ٢)
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦
ولو شئنا لبعثنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ونفوذ الكلمة ﴿في كل قرية نذيراً﴾ أي : رسولاً
٢٦
ينذرهم من البشر أو الملائكة أو غيرهم كما قسمنا المطر عليها وإنما قصرنا الأمر عليك وعظمناك به، وأجللناك وفضلناك على سائر الرسل.
﴿فلا تطع الكافرين﴾ فيما قصدوا من التنفير عن الدعاء بما يبدونه من المقترحات أو يظهرون لك من المداهنة أو من القلق من صادع الإنذار ويخيلون لك أنك لو أقللت منه رجوا أن يوافقوك وقابل ذلك بالتشدد والتصبر ﴿وجاهدهم﴾ أي : بالدعاء ﴿به﴾ أي : القرآن الذي تقدم التحدث عنه في قوله تعالى : ولقد صرفناه، أو بترك طاعتهم المدلول عليه بقوله تعالى : فلا تطع أو بالسيف والأقرب الأول ؛ لأن السورة مكية، والأمر بالقتال ورد بعد الهجرة بزمان ﴿جهاداً كبيراً﴾ أي : جامعاً لكل المجاهدات الظاهرة والباطنة ؛ لأن في ذلك إقبال كثير من الناس إليك واجتماعهم عليك، فيقوى أمرك ويعظم خطبك وتضعف شوكتهم وتنكسر سورتهم، فإن مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر من مجاهدة الأعداء بالسيف، ثم ذكر النوع الرابع بقوله تعالى :
﴿وهو الذي مرج البحرين﴾ أي : الماءين الواسعين الكبيرين بأن خلاهما متجاورين متلاصقين، وهو بقدرته تعالى يفصل بينهما ويمنعهما التمازج ﴿هذا عذب﴾ أي : حلو سائغ ﴿فرات﴾ أي : شديد العذوبة بالغ الغاية فيها حتى يضرب إلى الحلاوة لا فرق بين ما كان منه على وجه الأرض، وما كان في بطنها ﴿وهذا ملح﴾ أي : شديد الملوحة ﴿أجاج﴾ أي : مر محرق بملوحته ومرارته لا يصلح لسقي ولا شرب.
تنبيه : أشار تعالى بأداة القرب في الموضعين تنبيهاً على وجود الوصفين مع شدة المقاربة لا يلتبس أحدهما بالآخر حتى أنه إذا حفر على شاطىء البحر الملح بالقرب جداً منه خرج الماء عذباً ﴿وجعل﴾ أي : الله تعالى ﴿بينهما برزخاً﴾ أي : حاجزاً من قدرته مانعاً من اختلاطهما، ثم إنه تعالى أتم تقرير النعمة في منعهما من الاختلاط بالكلمة التي جرت عادتهم بقولها عند التعوذ تشبيهاً لكل منهما بالمتعوذ بقوله تعالى :﴿وحجراً محجوراً﴾ فكأن كل واحد من البحرين يتعوذ من صاحبه ويقول له ذلك كما قال تعالى :﴿لا يبغيان﴾ (الرحمن، ٢٠)
أي : لا يبغي أحدهما على صاحبه بالملوحة أو العذوبة، فانتقاء البغي كالتعوذ ههنا، ثم جعل كل واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه فهو يتعوذ منه وهو من أحسن الإستعارات وأشهدها على البلاغة فإن قيل : لا وجود للبحر العذب فكيف ذكره الله تعالى هنا ؟
أجيب : بأن المراد منه الأودية العظام كالنيل وجيحون ومن البحر الأجاج البحار الكبار. ثم ذكر النوع الخامس بقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦
وهو﴾ أي : وحده ﴿الذي خلق من الماء﴾ أي : المني من الرجل والمرأة ﴿بشراً﴾ أي : إنساناً ﴿فجعله﴾ أي : بعد ذلك بالتطوير في أطوار الخلقة والتدوير في أدوار التربية ﴿نسباً﴾ أي : ذكراً ينسب إليه ﴿وصهراً﴾ أي : أنثى يصاهر بها فيقسم هذا الماء بعد التطوير إلى ذكر وأنثى كما جعل ذلك الماء قسمين عذباً وملحاً ونحو هذا قوله تعالى :﴿فجعل منه الزوجين الذكر والأنثى﴾ (القيامة، ٣٩)، وقيل : النسب ما لا يحل نكاحه، والصهر ما يحل نكاحه، فالنسب ما يوجب الحرمة، والصهر ما لا يوجبها، قال البغوي : وقيل وهو الصحيح : النسب من القرابة والصهر الخلطة التي تشبه القرابة وهو النسب المحرم للنكاح، وقد ذكر الله تعالى أنه حرم للنسب سبعاً في قوله تعالى في النساء :﴿حرمت عليكم أمهاتكم﴾ (النساء، ٢٣)
﴿وكان ربك﴾ أي : المحسن إليك بإرسالك وإنزال هذا الذكر إليك ﴿قديراً﴾ حيث خلق من مادة واحدة
٢٧