ولما قام هذا البرهان القطعي على قدرته التامة علم أن التقدير : ثم يعيدكم خلقاً جديداً كما كنتم أول مرة فحذفه كما هو عادة القرآن في حذف كل ما دل عليه السياق ولم يدع داع إلى ذكره، وعطف عليه قوله تعالى ﴿ثم إلى ربكم﴾ أي : الذي ابتدأ خلقكم وتربيتكم وأحسن إليكم غاية الإحسان ﴿ترجعون﴾ أي : تصيرون إليه أحياء فيجزيكم بأعمالكم.
ولما تقرر دليل البعث بما لا خفاء فيه ولا لبس شرع في بعض أحواله بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦١
﴿ولو ترى﴾ أي : تبصر ﴿إذ المجرمون﴾ أي : الكافرون ﴿ناكسوا رؤوسهم﴾ أي : مطأطؤها خوفاً وخجلاً وحزناً وذلاً ﴿عند ربهم﴾ المحسن إليهم المتوحد بتدبيرهم قائلين بغاية الذل والرقة ﴿ربنا﴾ أي : المحسن إلينا ﴿أبصرنا﴾ أي : ما كنا نكذب به ﴿وسمعنا﴾ منك تصديق الرسل فيما كذبناهم فيه ﴿فارجعنا﴾ بمالك من هذه الصفة المقتضية للإحسان إلى الدنيا دار العمل ﴿نعمل صالحاً﴾ فيها ﴿إنا موقنون﴾ أي : ثابت لنا الآن الإيقان بجميع ما أخبرنا به عنك.
فلا ينفعهم ذلك ولا يرجعون، وجواب لو محذوف تقديره : لرأيت أمراً فظيعاً، والمخاطب يحتمل أن يكون النبي ﷺ شفاء لصدره، فإنهم كانوا يؤذونه بالتكذيب، ويحتمل أن يكون عاماً. وإذ على بابها من المضي لأن لو تصرف المضارع للمضي، وإنما جيء هنا ماضياً لتحقيق وقوعه نحو ﴿أتى أمر الله﴾ (النحل : ١)
وجعله أبو البقاء مما وقع فيه إذ موقع إذا ولا حاجة إليه. وقوله تعالى :
﴿ولو شئنا﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿لآتينا كل نفس﴾ أي : مكلفة لأن الكلام
٢٦٧
فيها ﴿هداها﴾ فتهتدي بالإيمان والطاعة باختيار منها جواب عن قولهم ﴿ربنا أبصرنا وسمعنا﴾ وذلك أن الله تعالى قال : إني لو أردت منكم الإيمان لهديتكم في الدنيا، ولما لم أهدكم تبين أني ما أردت ولا شئت إيمانكم فلا أردكم، وهذا صريح في الدلالة على صحة مذهب أهل السنة حيث قالوا : إن الله تعالى ما أراد الإيمان من الكافر وما شاء منه إلا الكفر ﴿ولكن﴾ لم أشأ ذلك لأنه ﴿حق القول مني﴾ وأنا من لا يخلف الميعاد ؛ لأن الإخلاف إما العجزٍ أو نسيانٍ أو حاجةٍ ولا شيء من ذلك يليق بجنابي ولا يحل بساحتي، وأكد لأجل إنكارهم فقال مقسماً :﴿لأملأن جهنم﴾ أي : التي هي محل إهانتي ﴿من الجنة﴾ أي : الجن طائفة إبليس، وكأنه تعالى أنثهم تحقيراً لهم عند من يستعظم أمرهم وبدأ بهم لاستعظامهم لهم ولأنهم الذين أضلوهم ﴿والناس أجمعين﴾ حيث قلت لإبليس :﴿لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ (ص : ٨٥)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦٧
فلذلك شئت كفر الكافر وعصيان العاصي بعد أن جعلت لهم اختياراً، وغيبت العاقبة عنهم، فصار الكسب ينسب إليهم ظاهراً والخلق في الحقيقة والمشيئة لي.
ولما تسبب عن هذا القول الصادق أنه لا محيص بهم عن عذابهم قال لهم الخزنة إذا دخلوا جهنم :
﴿فذوقوا﴾ العذاب ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿نسيتم لقاء يومكم﴾ وحققه وبين ذلك بقوله تعالى :﴿هذا﴾ أي : بترككم الإيمان به ﴿إنا نسيناكم﴾ أي : عاملناكم بمالنا من العظمة ولكم من الحقارة معاملة الناسي لكم فتركناكم في العذاب ﴿وذوقوا عذاب الخلد﴾ أي : المختص بأنه لا آخر له ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كنتم تعملون﴾ أي : من الكفر والتكذيب وإنكار البعث.
ولما ذكر تعالى علامة أهل الكفر أن ذكر علامة أهل الإيمان بقوله تعالى :
﴿إنما يؤمن بآياتنا﴾ أي : الدالة على عظمتنا ﴿الذين إذا ذكروا بها﴾ أي : من أي : مذكر كان في أي : وقت كان ﴿خروا سجداً﴾ أي : بادروا إلى السجود مبادرة من كأنه سقط من غير قصد خضعاً لله من شدة تواضعهم وخشيتهم وإخباتهم خضوعاً ثابتاً دائماً ﴿وسبحوا﴾ أي : أوقعوا التسبيح به عن كل شائبة نقص متلبسين ﴿بحمد ربهم﴾ أي : قالوا سبحان الله وبحمده. وقيل : صلوا بأمر ربهم.
ولما تضمن هذا تواضعهم صرح به في قوله تعالى ﴿وهم لا يستكبرون﴾ أي : عن الإيمان والطاعة كما يفعل من يصير مستكبراً، وكان رسول الله ﷺ "يقرأ السورة التي فيها السجدة فيسجد ونسجد حتى ما يجد أحدنا مكاناً لموضع جبهته في غير وقت الصلاة" وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله ﷺ "إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل إبليس يبكي يقول : يا ويلتي أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار" وهذه من عزائم سجود القرآن فتسن للقارئ والمستمع والسامع.
ولما كان المتواضع ربما ينسب إلى الكسل نفى ذلك عنهم مبيناً لما تضمنته الآية السالفة من خوفهم بقوله تعالى :
﴿تتجافى﴾ أي : ترتفع وتنبو ﴿جنوبهم عن المضاجع﴾ عبر به عن ترك النوم، قال ابن رواحة :
٢٦٨
*نبيٌّ تجافى جنبه عن فراشه ** إذا استثقلت بالمشركين المضاجع*


الصفحة التالية
Icon