ولما كان هجران المضجع قد يكون لغير العبادة بين أنه لها بقوله تعالى : مبيناً لحالهم ﴿يدعون﴾ أي : داعين ﴿ربهم﴾ الذي عوّدهم بإحسانه ثم علله بقوله تعالى :﴿خوفاً﴾ أي : من سخطه وعقابه، فإن أسباب الخوف من نقائصهم كثيرة سواء أعرفوا سبباً يوجب خوفاً أو لا لأنهم لا يأمنون مكر الله لأنه يفعل ما يشاء ﴿وطمعاً﴾ في رضاه الموجب لثوابه، وقال ابن عباس : خوفاً من النار وطمعاً في الجنة وعبر به دون الرجاء إشارة إلى أنهم لشدة معرفتهم بنقائصهم لا يعدون أعمالهم شيئاً بل يطلبون فضله بغير سبب وإن كانوا مجتهدين في طاعته.
ولما كانت العبادة تقطع غالباً عن التوسع في الدنيا بما دعت نفس العابد إلى التمسك بما في يده خوفاً من نقص العبادة عند الحاجة، وصفهم الله تعالى بقوله تعالى :﴿ومما رزقناهم﴾ أي :
٢٧٠
بعظمتنا لا بحول منهم ولا قوة ﴿ينفقون﴾ من غير إسراف ولا تقتير في جميع وجوه القرب التي شرعناها لهم فلا يبخلون بما عندهم اعتماداً على الخلاق الرزَّاق الذي ضمن الخلق فهم بما ضمن لهم أوثق منهم بما عندهم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦٧
ولما ذكر تعالى جزاء المستكبرين ذكر جزاء المتواضعين بقوله عز من قائل :
﴿فلا تعلم نفس﴾ أي : من جميع النفوس مقربة ولا غيرها ﴿ما أُخفي﴾ أي : خبئ ﴿لهم﴾ أي : لهؤلاء المذكورين من مفاتيح الغيوب وخزائنها كما كانوا يخفون أعمالهم في الصلاة في جوف الليل وبالصدقة وبغير ذلك، وقرأ حمزة بسكون الياء والباقون بالفتح.
ولما كانت العين لا تقر فتهجع إلا عند الأمن والسرور قال تعالى ﴿من قرة أعين﴾ أي : من شيء نفيس تقرّ به أعينهم لأجل ما أقلقوها عن قرارها بالنوم، ثم صرح بما أفهمته فاء السبب بقوله تعالى :﴿جزاء﴾ أي : أخفاها لهم لجزائهم ﴿بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كانوا يعملون﴾ أي : من الطاعات في دار الدنيا. روى البخاري في التفسير عن أبي هريرة أن رسول الله ﷺ قال :"قال الله تعالى : أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتهم ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم﴾ الآية وعن ابن مسعود قال :"إنه لمكتوب في التوراة لقد أعد الله تعالى للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرب ولا نبي مرسل وإنه لفي القرآن ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾.
وعن ابن عمر قال : إن الرجل من أهل الجنة ليجيء فيشرف عليه النساء فيقلن : يا فلان بن فلان ما أنت بمن خرجت من عندها بأولى بك منا فيقول : ومن أنتن ؟
فيقلن : نحن من اللاتي قال الله تعالى :﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين جزاء بما كانوا يعملون﴾ وعن عامر بن عبد الواحد قال : بلغني أن الرجل من أهل الجنة يمكث في مكان سبعين سنة، ثم يلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه فتقول له : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا مزيد، فيمكث معها سبعين سنة ويلتفت فإذا هو بامرأة أحسن مما كان فيه، فتقول : قد آن لك أن يكون لنا منك نصيب فيقول : من أنت فتقول : أنا التي قال الله تعالى ﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾.
وعن سعيد بن جبير قال : يدخلون عليهم على مقدار كل يوم من أيام الدنيا ثلاث مرات معهم التحف من الله من جنات عدن ما ليس في جناتهم، وذلك قوله تعالى :﴿فلا تعلم نفس ما أخفي لهم من قرة أعين﴾ وعن كعب قال : سأصف لكم منزل رجل من أهل الجنة كان يطلب حلالاً ويأكل حلالاً حتى لقي الله تعالى على ذلك، فإنه يعطى يوم القيامة قصراً من لؤلؤة واحدة ليس فيها صدع ولا وصل، فيها سبعون ألف غرفة، وأسفل الغرف سبعون ألف بيت كل بيت سقفه صفائح الذهب والفضة ليس بموصول، ولولا أن الله تعالى سخر النظر لذهب بصره من نوره غلظ الحائط
٢٧١
خمس عشر ميلاً وطوله في السماء سبعون ميلاً، في كل بيت سبعون ألف باب يدخل عليه في كل بيت من كل باب سبعون ألف خادم لا يراهم من في هذا البيت ولا يراهم من في هذا البيت، فإذا خرج من قصره سار في ملكه مثل عمر الدنيا يسير في ملكه عن يمينه وعن يساره ومن ورائه، وأزواجه معه وليس معه ذكر غيره ومن بين يديه ملائكة قد سخروا له وبين أزواجه ستر، وبين يديه ستر ووصاف ووصائف قد أفهموا ما يشتهي وما تشتهي أزواجه، ولا يموت هو ولا أزواجه ولا خدّامه أبداً، نعيمهم يزداد كل يوم من غير أن يبلي الأول، وقرة عين لا تنقطع أبداً، لا يدخل عليه فيه روعة أبداً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٦٧