ثم علل تعالى الأمر والنهي بما يزيل الهموم ويوجب الإقبال عليهما واللزوم بقوله تعالى :﴿إن الله﴾ أي : بعظيم كماله ﴿كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي : شامل العلم ﴿حكيماً﴾ أي : بالغ الحكمة فهو تعالى لم يأمرك بأمر إلا وقد علم ما يترتب عليه، وأحكم إصلاح الحال فيه.
ولما كان ذلك مفهماً لمخالفة كل ما يدعو إليه كافر، وكان الكافر ربما دعا إلى شيء من مكارم الأخلاق قيده بقوله تعالى :
﴿واتبع﴾ أي : بغاية جهدك ﴿ما يوحى﴾ أي : يلقى إلقاء خفياً كما يفعل المحب مع حبيبه ﴿إليك من ربك﴾ أي : المحسن إليك بصلاح جميع أمرك، وأتى موضع الضمير بالظاهر ليدل على الإحسان في التربية ليقوى على امتثال ما أمرت به الآية السالفة.
ولما أمر باتباع الوحي رغبه فيه بالتعليل بأوضح من التعليل الأول في أن مكرهم خفي بقوله تعالى مذكراً بالاسم الأعظم بجميع ما يدل عليه من الأسماء الحسنى زيادة في التقوى على الامتثال مؤكداً للترغيب ﴿أن الله﴾ أي : بعظمته وكماله ﴿كان﴾ أزلاً وأبداً ﴿بما يعملون﴾ أي : الفريقان من المكايد وإن دق ﴿خبيراً﴾ أي : فلا تهتم بشأنهم، فإنه سبحانه كافيكه وإن تعاظم، وقرأ أبو عمرو ﴿بما يعملون خبيراً﴾ ﴿وبما يعملون بصيراً﴾ بالياء على الغيبة على أن الواو ضمير الكفرة والمنافقين والباقون بالتاء على الخطاب فيهما.
ولما كان الآدمي موضع الحاجة قال تعالى :
﴿وتوكل﴾ أي : دع الاعتماد على التدبير في أمورك واعتمد فيها ﴿على الله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة فإنه يكفيك في جميع أمورك ﴿وكفى بالله﴾ أي : الذي له الأمر كله على الإطلاق ﴿وكيلا﴾ أي : موكولاً إليه الأمور كلها فلا تلتفت في شيء من أمرك إلى غيره ؛ لأنه ليس لك قلبان تصرف كل واحد منهما إلى واحد كما قال تعالى :
﴿ما جعل الله﴾ أي : الذي له الحكمة البالغة والعظمة الباهرة ﴿لرجل﴾ أي : لأحد من بني آدم ولا غيره، وعبر بالرجل لأنه أقوى جسماً وفهماً فيفهم غيره من باب أولى، وأشار إلى التأكيد بقوله تعالى :﴿من قلبين﴾ وأكد الحقيقة وقررها وجلاها وصورها بقوله تعالى :﴿في جوفه﴾ أي : ما جمع الله تعالى قلبين في جوف ؛ لأن القلب معدن الروح الحيواني المتعلق للنفس الإنساني أولاً، ومنبع القوى بأسرها ومدبر البدن بإذن الله تعالى وذلك يمنع التعدد ﴿وما جعل أزواجكم اللائي﴾
٢٨١
أباح لكم التمتع بهن ﴿تظاهرون منهن﴾ كما يقول الإنسان للواحدة منهن : أنت عليّ كظهر أمي ﴿أمهاتكم﴾ بما حرم عليكم من الاستمتاع بهن حتى تجعلوا ذلك على التأبيد وترتبوا على ذلك أحكام الأمهات كلها ﴿وما جعل أدعياءكم﴾ جمع دعيّ وهو من يدعي لغير أبيه ﴿أبناءكم﴾ حقيقة ليجعل لهم إرثكم ويحرم عليكم حلائلهم وغير ذلك من أحكام الأبناء.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٩
والمعنى : أن الله سبحانه وتعالى كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين لأنه لا يخلو أن يفعل بأحدهما مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها، وإما أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك فذلك يؤدي إلى اتصاف الجملة بكونه مريداً كارهاً عالماً ظاناً موقناً شاكاً في حالة واحدة لم ير أيضاً أن تكون المرأة الواحدة أما لرجل زوجاً له، لأن الأم مخدومة مخفوض لها الجناح، والمرأة مستخدمة متصرف فيها بالاستفراش وغيره كالمملوكة، وهما حالتان متنافيتان ولم ير أيضاً أن يكون الرجل الواحد دعيا لرجل وابناً له ؛ لأن البنوة أصالة في النسب وعراقة فيه، والدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، ولا يجتمع في الشيء الواحد أن يكون أصيلاً غير أصيل.
وهذا مثل ضربه الله تعالى في زيد بن حارثة وهو رجل من كلب سبي صغيراً وكانت العرب في جاهليتها يتغاورون ويتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمته خديجة، فلما تزوجها النبي ﷺ وهبته له وطلبه أبوه وعمه فخير فاختار النبي ﷺ فقال له أبوه وعمه :
يا زيد أتختار العبودية على الربوبية قال : ما أنا بمفارق هذا الرجل فلما رأى رسول الله ﷺ حرصه عليه أعتقه وتبناه قبل الوحي، وآخى بينه وبين حمزة بن عبد المطلب، فلما تزوج رسول الله ﷺ زينب بنت جحش وكانت تحت زيد بن حارثة قال المنافقون : تزوج امرأة ابنه وهو ينهى الناس عن ذلك، فأنزل الله تعالى هذه الآية فيه، وكذا قوله تعالى :﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾ (الأحزاب : ٤٠)