عليكم جناح} أي : إثم وميل واعوجاج، وعبر بالظرف ليفيد أن الخطأ لا إثم فيه بوجه، ولو عبر بالباء لظن أن فيه إثماً ولكن يعفي عنه فقال تعالى :﴿فيما أخطأتم به﴾ أي : من الدعاء بالنبوة والمظاهرة، أو في شيء قبل النهي أو بعده ودل قوله تعالى ﴿ولكن ما﴾ أي : الإثم فيما ﴿تعمدت قلوبكم﴾ على زوال الحرج أيضاً فيما وقع بعد النهي على سبيل النسيان، أو سبق اللسان، ودل تأنيث الفعل على أنه لا يتعمد بعد البيان الشافي إلا قلب فيه رخاوة الأنوثة، ودل جمع الكثرة على عموم الإثم إن لم ينته المتعمد.
تنبيه : يجوز في ما هذه وجهان :
أحدهما : أن تكون مجرورة المحل عطف على ما المجرورة قبلها بفي. والتقدير : ولكن الجناح فيما تعمدت كما مرت الإشارة إليه.
والثاني : أنها مرفوعة المحل بالابتداء، والخبر محذوف. وتقديره : تؤاخذون به أو عليكم فيه الجناح ونحوه، ولما كان هذا الكرم خاصاً بما تقدم عمم سبحانه وتعالى بقوله ﴿وكان الله﴾ أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ أي : من صفته الستر البليغ على المذنب التائب ﴿رحيماً﴾ به، ولما نهى تعالى عن التبني وكان النبي ﷺ قد تبنى زيد بن حارثة مولاه لما اختاره على أبيه وعمه كما مر علل تعالى النهي فيه بالخصوص بقوله تعالى : دالاً على أن الأمر أعظم من ذلك :
﴿النبي﴾ أي : الذي ينبئه الله تعالى بدقائق الأحوال في بدائع الأقوال، ويرفعه دائماً في مراقي الكمال ولا يزيد أن يشغله بولد ولا مال ﴿أولى بالمؤمنين﴾ أي : الراسخين في الإيمان فغيرهم أولى في كل شيء من أمور الدين والدنيا لما حازه من الحضرة الربانية ﴿من أنفسهم﴾ فضلاً عن آبائهم في نفوذ حكمه فيهم ووجوب طاعته عليهم، روى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال :"ما من مؤمن إلا وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة اقرؤا إن شئتم ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ فأي مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا، فإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه".
وعن جابر أنه ﷺ كان يقول :"أنا أولى بكل مؤمن من نفسه فأيما رجل مات وترك ديناً فإليّ، ومن ترك مالاً فهو لورثته" وعن أبي هريرة قال : كان المؤمن إذا توفي في عهد رسول الله ﷺ يسأل : هل عليه دين ؟
فإن قالوا : نعم قال : هل ترك وفاء لدينه، فإن قالوا : نعم صلى عليه وإن قالوا : لا قال : صلوا على صاحبكم، وإنما لم يصل عليه ﷺ أولاً فيما إذا لم يترك وفاء لأن
٢٨٤
شفاعته ﷺ لا ترد، وقد ورد إن نفس المؤمن محبوسة عن مقامها الكريم ما لم يوف دينه، وهو محمول على من قصر في وفائه في حال حياته، أما من لم يقصر لفقره مثلاً فلا، كما أوضحت ذلك في شرح المنهاج في باب الرهن.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٧٩
وإنما كان ﷺ أولى بهم من أنفسهم لأنه لا يدعوهم إلا إلى العقل والحكمة، ولا يأمرهم إلا بما ينجيهم، وأنفسهم إنما تدعوهم إلى الهوى والفتنة فتأمرهم بما يرد بهم، فهو يتصرف فيهم تصرف الآباء بل أعظم بهذا السبب الرباني فأي : حاجة إلى السبب الجسماني ﴿وأزواجه أمهاتهم﴾ أي : المؤمنين أي : مثلهن في تحريم نكاحهن ووجوب احترامهن وطاعتهن إكراماً له ﷺ لافى حكم الخلوة والنظر والظهار والمسافرة والنفقة والميراث، وهو ﷺ أب للرجال والنساء، وأما قوله تعالى :﴿ما كان محمد أبا أحد من رجالكم﴾ (الأحزاب، ٤٠) فمعناه ليس أحد من رجالكم ولد صلبه وسيأتي ذلك ويحرم سؤالهن إلا من وراء حجاب، وسيأتي ما يتعلق بذلك إن شاء الله تعالى في محله.
وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه مر بغلام وهو يقرأ في المصحف "النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وأزواجه أمهاتهم وهو أب لهم" فقال : يا غلام حكتها فقال : هذا مصحف أبي فذهب إليه فسأله فقال : إنه كان يلهيني القرآن ويلهيك الصفق بالأسواق، ومعنى ذلك : أن هذا كان يقرأ أولاً، ونسخ لما روي عن عكرمة أنه قال : كان في الحرف الأول ﴿النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم﴾ وهو أبوهم، وعن الحسن قال في القراءة الأولى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وهو أب لهم وقوله تعالى :﴿وأولوا الأرحام﴾ أي : القرابات بأنواع النسب من النبوة وغيرها ﴿بعضهم أولى﴾ بحق القرابة ﴿ببعض﴾ أي : في التوارث، ثم نسخ لما كان في صدر الإسلام فإنهم كانوا فيه يتوارثون بالحلف والنصر فيقول : ذمتي ذمتك ترثني وأرثك، ثم نسخ بالإسلام والهجرة، ثم نسخ بآية المواريث وبالآية التي في آخر الأنفال وأعادها تأكيداً، فإن آية المواريث مقدمة ترتيباً ونزولاً على آية الأنفال، وآية الأنفال على هذه كذلك وقوله تعالى :﴿في كتاب الله﴾ يحتمل أن ذلك في اللوح المحفوظ أو فيما أنزل وهو هذه الآيات المذكورة أو فيما فرض الله.


الصفحة التالية
Icon