فلما رجعت إليهم الرسل بالذي قالت بنو قريظة قالت قريش وغطفان : تعلمن والله أن الذي حدثكم به نعيم ابن مسعود لحق، فأرسلوا إلى بني قريظة أنا والله لا ندفع إليكم رجلاً واحداً من رجالنا، فإن كنتم تريدون القتال فاخرجوا فقاتلوا، فقالت بنو قريظة حين انتهت الرسل إليهم بهذا : إن الذي ذكر لكم نعيم بن مسعود لحق ما يريد القوم إلا أن يقاتلوا، فإن وجدوا فرصة انتهزوها، وإن يكن غير ذلك استمروا إلى بلادهم وخلوا بينكم وبين الرجل في بلادكم، فأرسلوا إلى قريش وغطفان أنا والله لا نقاتل معكم حتى تعطونا رهناً، فأبوا عليهم. وخذل الله تعالى بينهم وبعث الله تعالى عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد فجعلت تكفأ قدورهم وتطرح آنيتهم، فلما انتهى إلى رسول الله ﷺ ما اختلف من أمرهم قال : من يقوم فيذهب إلى هؤلاء القوم فيأتينا بخبرهم أدخله الله تعالى الجنة ؟
قال حذيفة : فما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله ﷺ من الليل، ثم التفت إلينا فقال مثله فأسكت القوم وما قام منا رجل، ثم صلى رسول الله ﷺ هويَّاً من الليل ثم التفت إلينا فقال : ألا من رجل يقوم فينظر لنا ما فعل القوم على أن يكون رفيقي في الجنة ؟
فما قام رجل من شدة الخوف وشدة البرد، فلما لم يقم أحد دعاني رسول الله ﷺ فقال : يا حذيفة فلم يكن لي بد من القيام حين دعاني فقلت : لبيك يا رسول الله وقمت حتى أتيته وإن جنبي يضطربان، فمسح رأسي ووجهي ثم قال : ائت هؤلاء القوم حتى تأتيني بخبرهم ولا تحدثن شيئاً حتى ترجع إليّ، ثم قال : اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ومن فوقه ومن تحته، فأخذت سهمي وشددت عليّ أسلابي، ثم انطلقت أمشي نحوهم كأني أمشي في حمام، فذهبت فدخلت في القوم وقد أرسل الله
٢٩١
عليهم ريحاً، وجنود الله تعالى تفعل فيهم ما تفعل وأبو سفيان قاعد يصطلي فأخذت سهماً فوضعته في كبد قوسي فأردت أن أرميه ـ ولو رميته لأصبته ـ فذكرت قول النبي ﷺ لا تحدثن شيئاً حتى ترجع، فرددت سهمي في كنانتي، فلما رأى أبو سفيان ما تفعل الريح وجنود الله تعالى بهم لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناء قام فقال : يا معشر قريش ليأخذن كل منكم بيد جليسه فلينظر من هو، فأخذت بيد جليسي فقلت : من أنت قال : سبحان الله أما تعرفني أنا فلان فإذا رجل من هوازن فقال أبو سفيان يا معشر قريش إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام، لقد هلك الكراع والخف وأخلفنا بنو قريظة وبلغنا عنهم الذي نكره، وبلغنا من هذه الريح ما ترون، فارتحلوا فإني مرتحل، ثم قام إلى جمله وهو معقول فجلس عليه ثم ضربه فوثب به على ثلاث فما أطلق عقاله إلا وهو قائم.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨٦
وسمعت غطفان بما فعلت قريش فاستمروا راجعين إلى بلادهم قال : فرجعت إلى رسول الله ﷺ كأني أمشي في حمام فأتيته وهو قائم يصلي فلما أخبرته الخبر ضحك حتى بدت أنيابه في سواد الليل قال : فلما أخبرته وفرغت قررت وذهب عني الدفء، فأدناني النبي ﷺ فأنامني عند رجليه وألقى عليّ طرف ثوبه، وألصق صدري ببطن قدميه فلم أزل نائماً حتى أصبحت فقال : قم يا نومان.
ثم إن الله تعالى بيَّن حال غير الثابتين بقوله تعالى :
﴿وإذ يقول المنافقون﴾ معتب بن قشير وقيل : عبد الله بن أبيّ وأصحابه ﴿والذين في قلوبهم مرض﴾ أي : ضعف اعتقاد ﴿ما وعدنا الله ورسوله إلا غرورا﴾ أي : باطلاً استدرجنا به إلى الانسلاخ عما كنا عليه من دين آبائنا، وإلى الثبات على ما صرنا إليه بعد ذلك الانسلاخ بما وعدنا به من ظهور هذا الدين على الدين كله والتمكين في البلاد حتى حفر الخندق، فإنه قال : إنه أبصر بما برق له من ضوء صخرة سلمان مدينة صنعاء من اليمن وقصور كسرى من الحيرة من أرض فارس، وقصور الشام من أرض الروم، وإن تابعيه ليظهرون على ذلك كله، وقد صدق الله وعده في جميع ذلك حتى في لبس سراقة بن مالك بن جعثم سوار كسرى بن هرمز كما هو مذكور في دلائل النبوة للبيهقي، وكذبوا في شكهم ففاز المصدقون وخاب الذين هم في ريبهم يترددون.
﴿وإذ قالت طائفة منهم﴾ أي : من المنافقين وهم أوس بن قبطي وأصحابه ﴿يا أهل يثرب﴾ أي : المدينة وقال أبو عبيدة : يثرب اسم أرض ومدينة الرسول ﷺ في ناحية منها، وفي بعض الأخبار : أن النبي ﷺ نهى أن تسمى المدينة يثرب، وقال : هي طابة كأنه كره تلك اللفظة فعدلوا عن هذا الاسم الذي وسمها به النبي ﷺ إلى الاسم الذي كانت تدعى به قديماً مع نهيه عنه، واحتمال قبحه باشتقاقه من الثرب الذي هو اللوم والتعنيف، وقال أهل اللغة : يثرب اسم المدينة وقيل : اسم البقعة التي فيها المدينة. وامتناع صرفها إما للعلمية والوزن أو العلمية والتأنيث، وأما يثرب بالمثناة وفتح الراء فموضع آخر باليمن قال الشاعر :
٢٩٢


الصفحة التالية
Icon