﴿الذي خلق السموات والأرض﴾ على عظمهما ﴿وما بينهما﴾ من الفضاء والعناصر والعباد وأعمالهم من الذنوب وغيرها ألا يعلم من خلق وقوله تعالى :﴿في ستة أيام﴾ أي : من أيام الدنيا تعجيب للغبي الجاهل وتدريب للفطن العالم في الحلم والأناة والصبر على عباد الله تعالى في دعوتهم، فإن قيل : الأيام عبارة عن حركة الشمس في السموات، فقبل السموات لا أيام فكيف قال تعالى : في ستة أيام ؟
أجيب : بأنه تعالى خلقها في مدة مقدارها هذه الأيام، فإن قيل : يلزم على هذا قدم الزمان وهو ممنوع ؟
أجيب : بأن الله تعالى خلق هذه المدة أولاً ثم خلق السموات والأرض فيها بمقدار ستة أيام فلا يلزم من ذلك قدم الزمان، وقيل : في ستة أيام من أيام الآخرة كل يوم مقداره ألف سنة وهو بعيد ؛ لأن التعريف لا بد وأن يكون بأمر معلوم لا بأمر مجهول.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨
فإن قيل : لما قدر الخلق والإيجاد بهذا المقدار ؟
أجيب : بأنه يجب على المكلف أن يقطع الطمع عن مثل هذا فإنه بحر لا ساحل له من ذلك تقدير الملائكة الذين هم أصحاب النار بتسعة عشر، وحملة العرش بثمانية والشهور بإثني عشر والسموات بالسبع وعدد الصلوات ومقادير النصب في الزكوات والحدود والكفارات، فالإقرار بأن كل ما قاله الله حق هو الدين والواجب ترك البحث عن هذه الأشياء، وقد نص الله تعالى على ذلك في قوله عز وجل :﴿وما جعلنا أصحاب النار إلا ملائكة وما جعلنا عدتهم إلا فتنة للذين كفروا ليستيقن الذين أوتوا الكتاب ويزداد الذين آمنوا إيماناً ولا يرتاب الذين أوتوا الكتاب والمؤمنون وليقول الذين في قلوبهم مرض والكافرون ماذا أراد الله بهذا مثلاً﴾ ثم قال الله تعالى :﴿وما يعلم جنود ربك إلا هو﴾ (المدثر، ٣١)
وهذا جواب أيضاً عن أنه لم لم يخلقها في لحظة وهو قادر على ذلك، وعن سعيد ابن جبير : إنما خلقها في ستة أيام وهو قادر أن يخلقها في لحظة واحدة، تعليماً لخلقه الرفق والتثبت، وقيل : اجتمع خلقها يوم الجمعة فجعله الله عيداً للمسلمين، وعن مجاهد أول الأيام يوم الأحد وآخرها يوم الجمعة، ولما كان تدبير هذا الملك أمراً باهراً أشار إليه بأداة التراخي بقوله تعالى :﴿ثم استوى على العرش﴾ أي : شرع في التدبير لهذا الملك الذي اخترعه وأوجده، ولا يجوز أن يفسر بالاستقرار، لأنه يقتضي التغير الذي هو دليل الحدوث، ويقتضي التركيب وكل ذلك على الله محال، فإن قيل : يلزم من ذلك أن يكون خلق العرش بعد خلق السموات، وقال الله تعالى :﴿وكان عرشه على الماء﴾ (هود، ٧)
أجيب : بأن كلمة ثم ما
٢٩
دخلت على خلق العرش بل على رفعه على السموات وهو في اللغة سرير الملك وفي رفع قوله تعالى ﴿الرحمن﴾ أوجه ؛ أحدها : أنه خبر الذي خلق أو خبر مبتدأ مضمر أي : هو الرحمن ولهذا أجاز الزجاج وغيره الوقف على العرش، ثم يبتدىء الرحمن أي : هو الرحمن الذي لا ينبغي السجود والتعظيم إلا له، أو يكون بدلاً من الضمير في استوى، وعلى هذا اقتصر الجلال المحلي.
واختلف في معنى الفاء في قوله تعالى :﴿فاسأل به﴾ على قولين ؛ أحدهما : أنها على بابها وهي متعلقة بالسؤال، والمراد بقوله :﴿خبيراً﴾ أي : عالماً يخبرك بحقيقته هو الله تعالى، ويكون من التجريد كقوله : رأيت به أسداً والمعنى : فاسأل الله الخبير بالأشياء قال الزمخشري : أو فاسأل بسؤاله خبيراً كقولك : رأيت به أسداً أي : برؤيته انتهى. فقال الكلبي : فقوله به يعود إلى ما ذكر من خلق السموات والأرض والاستواء على العرش، والباء من صلة الخبير وذلك الخبير هو الله تعالى، لأنه لا دليل في العقل على كيفية خلق السموات والأرض، والاستواء على العرش، ولا يعلمها أحد إلا الله تعالى، والثاني : أن تكون الباء بمعنى عن إما مطلقاً وإما مع السؤال خاصة كهذه الآية، وكقول علقمة بن عبيدة :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٨
فإن تسألوني بالنساء فإنني
** خبير بأدواء النساء طبيب
والضمير في به لله وخبيراً من صفات الملك وهو جبريل عليه السلام، فعن ابن عباس أن ذلك الخبير هو جبريل وإنما قدم لرؤوس الآي وحسن النظم، وقال ابن جرير : الباء في به صلة والمعنى : فاسأله خبيراً، وخبيراً نصب على الحال وقيل : به يجري مجرى القسم كقوله تعالى :﴿واتقوا الله الذي تساءلون به﴾، وقيل : فاسأل بهذا الاسم من يخبرك من أهل الكتاب حتى تعرف من ينكره ومن ثم كانوا يقولون : ما نعرف الرحمن إلا الذي باليمامة يعنون مسيلمة الكذاب، وكان يقال له : رحمن اليمامة، وقيل : فاسأل بسبب سؤالك إياه خبيراً عن هذه الأمور وكل أمر تريده فيخبرك بحقيقة أمره ابتداءً وحالاً ومآلاً، فلا يضيق صدرك بسبب هؤلاء المدعوين، فإنه ما أرسلك إلا وهو عالم بهم فسيعلي كعبك عليهم ويحسن لك العاقبة، وقرأ ابن كثير والكسائي بالنقل، وكذا يقرأ حمزة في الوقف، والباقون بسكون السين وفتح الهمزة، ولما ذكر تعالى إحسانه إليهم وإنعامه عليهم ذكر ما أبدوه من كفرهم في موضع شكرهم بقوله :