ومنها : أن واحدة منهن لو اختارت نفسها وقلنا : إنها لا تبين إلا بإبانة النبي ﷺ فهل كان يجب على النبي ﷺ الطلاق أم لا، الظاهر نظر إلى منصب النبي ﷺ أنه كان يجب لأن الخلف في الوعد من النبي ﷺ غير جائز، بخلاف أحدنا فإنه لا يلزمه شرعاً الوفاء بما يعد.
ومنها : أن المختارة بعد البينونة هل كانت تحرم على غيره أم لا، الظاهر أنها لا تحرم وإلا لم يكن التخيير ممكناً لها من التمتع بزينة الدنيا.
ومنها : أن من اختارت الله ورسوله هل كان يحرم على النبي ﷺ طلاقها أم لا، الظاهر الحرمة نظراً إلى منصب الرسول ﷺ على معنى أن النبي ﷺ لا يباشره أصلاً، لا بمعنى أنه لو أتى به لعوقب أو عوتب انتهى.
ولما خيرهن واخترن الله ورسوله هددهن الله للتوقي عما يسوء النبي ﷺ وأوعدهن بتضعيف العذاب بقوله :
﴿يا نساء النبي﴾ أي : المختارات له لما بينه وبين الله تعالى مما يظهر شرفه ﴿من يأت منكن بفاحشة﴾ أي : سيئة من قول أو فعل كالنشوز وسوء الخلق واختيار الحياة الدنيا وزينتها على الله تعالى ورسوله ﷺ وغير ذلك، وقال ابن عباس : المراد هنا بالفاحشة : النشوز وسوء الخلق وقيل : هو كقوله تعالى :﴿لئن أشركت ليحبطن عملك﴾ (الزمر : ٦٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
وقرأ ابن كثير وشعبة ﴿مبينة﴾ بفتح الياء التحتية أي : ظاهر فحشها، والباقون بكسرها أي : واضحة ظاهرة في نفسها ﴿يضاعف لها العذاب﴾ أي : بسبب ذلك ﴿ضعفين﴾ أي : ضعفي عذاب غيرهن أي : مثيله وإنما ضوعف عذابهن لأن ما قبح من سائر النساء كان أقبح منهن وأقبح لأن زيادة قبح المعصية تتبع زيادة الفضل والمرتبة، ولذلك كان ذم العقلاء للعاصي العالم أشد منه للعاصي الجاهل لأن المعصية من العالم أقبح، ولذلك جعل حد الحر ضعفي حد العبد، وعوتب الأنبياء بما لم يعاتب به غيرهم، وقرأ نافع وعاصم وحمزة والكسائي بالياء التحتية وألف بعد الضاد وتخفيف العين مفتوحة، العذاب بالرفع، وابن كثير وابن عامر بالنون، ولا ألف بعد الضاد وتشديد العين مكسورة، العذاب بالنصب، وأبو عمرو بالياء وتشديد العين مفتوحة العذاب بالرفع. وقوله تعالى :﴿وكان ذلك على الله يسيراً﴾ فيه إيذان بأن كونهن نساء للنبي ﷺ ليس بمغن عنهن شيئاً، وكيف يغني عنهن وهو سبب مضاعفة العذاب، فكان داعياً إلى تشديد الأمر عليهن غير صارف عنه.
ولما بين تعالى زيادة عقابهن أتبعه زيادة ثوابهن بقوله تعالى :
٣٠٦
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٢٩٨
﴿ومن يقنت﴾ أي : يطع ﴿منكن لله﴾ الذي هو أهل لأن لا يلتفت إلى غيره ﴿ورسوله﴾ الذي لا ينطق عن الهوى فلا تخالفه فيما أمر به ولا تختار عيشاً غير عيشه ﴿وتعمل﴾ أي : مع ذلك بجوارحها ﴿صالحاً﴾ أي : في جميع ما أمر به سبحانه أو نهى عنه فلا تقتصر على عمل القلب ﴿نؤتها أجرها مرتين﴾ أي : مثلي ثواب غيرهن من النساء. قال مقاتل : مكان كل حسنة عشرين حسنة فمرة على الطاعة، ومرة لطلبهن رضا رسول الله ﷺ بحسن الخلق وطيب المعاشرة والقناعة.
تنبيه : قوله تعالى :﴿نؤتها أجرها مرتين﴾ في مقابلة قوله تعالى ﴿يضاعف لها العذاب ضعفين﴾ وفيه لطيفة وهي أنه عند إيتاء الأجر ذكر المؤتي وهو الله تعالى، وعند العذاب لم يصرح بالمعذب بل قال : يضاعف، وهذا إشارة إلى كمال الرحمة والكرم، وقرأ حمزة والكسائي بالياء التحتية في يعمل، ويؤتها حملاً على لفظ من وهو الأصل، والباقون بالتاء الفوقية في يعمل على معنى من، والنون في نؤتها على أن فيه ضمير اسم الله تعالى ﴿وأعتدنا﴾ أي : هيأنا بما لنا من العظمة ﴿لها﴾ أي : بسبب قناعتها مع النبي ﷺ المريد للتخلي من الدنيا التي يبغضها الله تعالى مع ما في ذلك من توفير الحظ في الآخرة ﴿رزقاً كريماً﴾ أي : في الدنيا والآخرة زيادة على أجرها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٠٧
أما في الدنيا : فلأن ما يرزقهن منه يوفقن لصرفه على وجه يكون فيه أعظم الثواب ولا يخشى من أجله نوع عقاب. وأما في الآخرة : فلا يوصف ولا يحد ولا نكد فيه أصلاً ولا كدّ، وهذا ما جرى عليه البقاعي وهو أولى مما جرى عليه كثير من المفسرين من الاقتصار على رزق الجنة، وعلله الرازي بقوله : ووصف رزقاً بكونه كريماً مع أن الكريم لا يكون وصفاً إلا للرازق، وذلك
٣٠٧