أنفسهن لك فتؤويها إليك وتترك من تشاء فلا تقبلها، وروى هشام عن أبيه قال :"كانت خولة بنت حكيم من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي ﷺ فقالت عائشة : أما تستحي المرأة أن تهب نفسها للرجل فلما نزلت ترجي من تشاء منهن قلت : يا رسول الله ما أرى ربك إلا يسارع في هواك" ﴿ذلك﴾ أي : التفويض إلى مشيئتك ﴿أدنى﴾ أي : أقرب ﴿أن﴾ أي : إلى أن ﴿تقر أعينهن﴾ أي : بما حصل لهن من عشرتك الكريمة، وهو كناية عن السرور والطمأنينة ببلوغ المراد ؛ لأن من كان كذلك كانت عينه قارة، ومن كان مهموماً كانت عينه كثيرة التقلب، هذا إذا كان من القرار بمعنى السكون.
ويجوز أن يكون من القر الذي هو ضد الحر ؛ لأن المسرور تكون عينه باردة، والمهموم تكون عينه حارة، فذلك يقال للصديق : أقر الله تعالى عينك. وللعدو : سخن الله عينك ﴿ولا يحزن﴾ أي : بالفراق وغيره مما يحزن من ذلك ﴿ويرضين﴾ لعلمهن أن ذلك من الله تعالى ﴿بما أتيتهن﴾ أي : من الأجور ونحوها من نفقة وقسم وإيثار وغيرها. ثم أكد ذلك بقوله تعالى :﴿كلهن﴾ أي : ليس منهن واحدة لا هي كذلك ؛ لأن حكم كلهن فيه سواء، إن سويت بينهن وجدن ذلك تفضلاً منك، وإن رجحت بعضهن علمن أنه بحكم الله تعالى فتطمئن نفوسهن، وزاد ذلك تأكيداً لما لذلك من الغرابة بقوله تعالى :﴿والله﴾ أي : بما له من الإحاطة بصفات الكمال ﴿يعلم ما في قلوبكم﴾ أي : الخلائق كلهم، فلا يدع أن يعلم ما في قلوب هؤلاء ﴿وكان الله﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي : بكل شيء من يطيعه ومن يعصيه ﴿حليماً﴾ لا يعاجل من عصاه بل يديم إحسانه إليه في الدنيا، فيجب أن يتقي لعلمه وحلمه، فعلمه موجب للخوف منه وحلمه مقتضٍ للاستحياء منه، وأخذ الحليم شديدٌ، فينبغي لعبده المحب له أن يحلم عمن يعلم تقصيره في حقه، فإنه سبحانه يأجره على ذلك بأن يحلم عنه فيما علمه منه، ويرفع قدره ويعلي ذكره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩
وروى البخاري في التفسير عن معاذ عن عائشة أن رسول الله ﷺ "كان يستأذن في يوم المرأة منا بعد أن أنزلت هذه الآية ﴿ترجي من تشاء﴾ الآية قلت لها : ما كنت تقولين ؟
قالت : كنت أقول له : إن كان ذاك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً".
ولما أمره الله تعالى بالتخيير وخيرهن واخترن الله ورسوله زاد الله تعالى سرورهن بقوله تعالى :
﴿لا يحل لك النساء من بعد﴾ أي : بعد من معك من هؤلاء التسع اللاتي اخترنك شكراً من الله لهن ؛ لكونهن لما نزلت آية التخيير اخترن الله ورسوله فحرم عليه النساء سواهن، ونهاه عن تطليقهن وعن الاستبدال بهن بقوله تعالى :﴿ولا أن تبدل بهن﴾ أي : هؤلاء التسع، وأعرق في النفي بقوله تعالى :﴿من﴾ أي : شيئاً من ﴿أزواج﴾ أي : بأن تطلقهن أي : هؤلاء المعينات أو بعضهن وتأخذ بدلها من غيرهن ﴿ولو أعجبك حسنهن﴾ أي : النساء المغايرات لمن معك. قال ابن عباس : يعني أسماء بنت عميس الخثعمية امرأة جعفر بن أبي طالب، فلما استشهد أراد رسول الله ﷺ أن يخطبها فنُهي عن ذلك، وقرأ أبو عمرو لا تحل لك بالتاء الفوقية والباقون بالياء التحتية، وشدد البزي التاء من أن تبذل.
تنبيه : في الآية دليل على إباحة النظر إلى من يريد نكاحها لكن من غير العورة في الصلاة،
٣٣٠
فينظر الرجل من الحرة الوجه والكفين، ومن الأمة ما عدا ما بين السرة والركبة، واحتج لذلك بقوله ﷺ للمغيرة وقد خطب امرأة :"انظر إليها فإنه أحرى أن يؤدم بينكما أن تدوم المودة والإلفة" رواه الحاكم وصححه. وقوله تعالى :﴿إلا ما ملكت يمينك﴾ استثناء من النساء ؛ لأنه يتناول الأزواج والإماء أي : فتحل لك، وقد ملك بعدهن مارية وولدت له إبراهيم ومات، واختلفوا هل أبيح له النساء من بعد ؟
قالت عائشة :"ما مات رسول الله ﷺ حتى أحل الله له النساء" أي : فنسخ ذلك، وأبيح له أن ينكح أكثر منهن بآية ﴿إنا أحللنا لك أزواجك﴾، فإن قيل : هذه الآية متقدمة وشرط الناسخ أن يكون متأخراً ؟
أجيب : بأنها مؤخرة في النزول مقدمة في التلاوة، وهذا أصح الأقوال.
وقال أنس : مات على التحريم، وقال عكرمة والضحاك : معنى الآية لا تحل لك النساء بعد التي أحللنا لك بالصفة التي تقدم ذكرها، وقيل لأبي بن كعب : لو مات نساء النبي ﷺ أكان يحل له أن يتزوج فقال : وما يمنعه من ذلك قيل : قوله تعالى :﴿لا تحل لك النساء من بعد﴾ قال : إنما أحل الله تعالى له ضرباً من النساء فقال :﴿يا أيها النبي إنا أحللنا لك أزواجك﴾ (الأحزاب : ٥٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢٩