وإنما امتنعن خوفاً كما قال تعالى :﴿وأشفقن منها﴾ أي : خفن من الأمانة أن لا يؤدينها فيلحقهن العقاب ﴿وحملها الإنسان﴾ أي : آدم قال الله تعالى لآدم : إني عرضت الأمانة على السموات والأرض والجبال فلم تطقها فهل أنت آخذها بما فيها قال : يا رب وما فيها قال : إن أحسنت جوزيت، وإن أسأت عوقبت فتحملها آدم عليه السلام وقال : بين أذني وعاتقي فقال الله تعالى : أما إذا تحملت فسأعينك اجعل لبصرك حجاباً فإذا خشيت أن تنظر لما لا يحل فأرخ عليه حجابه، وأجعل للسانك لحيين وغلقاً فإذا خشيت فأغلق، وأجعل لفرجك ستراً فإذا خشيت فلا تكشفه على ما حرمت عليك قال مجاهد : فما كان بين أن تحملها وبين أن أخرج من الجنة إلا مقدار ما بين الظهر والعصر. وحكى النقاش بإسناده عن ابن مسعود أنه قال : مثلت الأمانة بصخرة ملقاة ودعيت السموات والأرض والجبال إليها فلم يقربوا منها وقالوا : لا نطيق حملها وجاء آدم عليه السلام من غير أن يدعى وحرك الصخرة وقال : لو أمرت بحملها لحملتها فقلن : احمل فحملها إلى ركبتيه ثم وضعها وقال : والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له : احمل فحملها إلى حقويه وقال والله لو أردت أن أزداد لازددت فقلن له احمل فحملها حتى وضعها على عاتقه فأراد أن يضعها فقال له الله تعالى : مكانك فإنها في عنقك وعنق ذريتك إلى يوم القيامة.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٠
إنه كان ظلوماً جهولاً﴾ قال ابن عباس : ظلوماً لنفسه جهولاً بأمر الله تعالى وما احتمل من الأمانة وقال الكلبي : ظلوماً حين عصى ربه جهولاً لا يدري ما العقاب في ترك الأمانة وقال مقاتل : ظلوماً لنفسه جهولاً بعاقبة ما تحمل، وذكر الزجاج وغيره من أهل المعاني في قوله تعالى :﴿وحملها الإنسان﴾ قولاً آخر فقالوا : إن الله تعالى ائتمن آدم وأولاده على شيء وائتمن السموات والأرض والجبال على شيء فالأمانة في حق بني آدم ما ذكرنا من الطاعة والقيام بالفرائض، والأمانة في حق السموات والأرض والجبال هي الخضوع والطاعة لما خلقن له وقوله تعالى :﴿فأبين أن يحملنها﴾ أي : أبين الأمانة يقال : فلان حمل الأمانة أي : أثم فيها بالخيانة قال تعالى :﴿وليحملن أثقالهم﴾ (العنكبوت : ١٣)
﴿إنه كان ظلوماً جهولاً﴾ حكي عن الحسن على هذا التأويل أنه قال : وحملها الإنسان يعني الكافر والمنافق حملا الأمانة أي : خانا فيها، والأول قول السلف وهو الأولى وقيل : المراد بالأمانة العقل والتكليف، وبعرضها عليهن اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهن وبإبائهن الإباء الطبيعي الذي هو عدم اللياقة والاستعداد وتحمل الإنسان قابليته واستعداده لها وكونه ظلوماً جهولاً لما غلب عليه من القوة الغضبية والشهوية، وعلى هذا يحسن أن يكون علة للحمل عليه فإن من فوائد العقل أن يكون مهيمناً على القوتين حافظاً لهما عن التعدي، ومجازوة الحد ومعظم مقصود التكليف تعديلهما وكسر سورتهما، وعن أبي هريرة قال : بينما رسول الله ﷺ في مجلس يحدث القوم فجاء أعرابي فقال :"متى الساعة فمضى رسول الله ﷺ يحدث فقال بعض القوم : سمع ما قال فكره ما قال، وقال : بعضهم بل لم يسمع حتى إذا قضى حديثه قال : أين السائل عن الساعة
٣٤٤
قال : ها أنا يا رسول الله قال : إذا ضيعت الأمانة فانتظر الساعة" وعنه قال : قال رسول الله ﷺ "أدِّ الأمانة إلى من ائتمنك ولا تخن من خانك" وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله ﷺ "إن من أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه ثم ينشر سرها" وقوله تعالى :
﴿ليعذب الله﴾ أي : الملك الأعظم متعلق بعرضنا المترتب عليه حمل الإنسان ﴿المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات﴾ أي : المضيعين الأمانة.
تنبيه : لم يعد اسمه تعالى فلم يقل : ويعذب الله المشركين وأعاده في قوله تعالى ﴿ويتوب الله﴾ أي : بما له من العظمة ﴿على المؤمنين والمؤمنات﴾ أي : المؤدين للأمانة، ولو قال تعالى : ويتوب على المؤمنين والمؤمنات كان المعنى حاصلاً، ولكنه أراد تفضيل المؤمن على المنافق فجعله كالكلام المستأنف.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٠
ولما ذكر تعالى في الإنسان وصفين الظلوم والجهول ذكر تعالى من أوصافه وصفين بقوله تعالى :﴿وكان الله﴾ أي : على ما له من الكبرياء والعظمة ﴿غفوراً﴾ للمؤمنين حيث عفا عن فرطاتهم ﴿رحيماً﴾ بهم حيث أثابهم بالعفو على طاعتهم مكرماً لهم بأنواع الكرم. وما رواه البيضاوي من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة الأحزاب وعلمها أهله وما ملكت يمينه أعطي الأمان من عذاب القبر" حديث موضوع رواه الثعلبي.
٣٤٥
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٤٠