تنبيه : في قوله تعالى ﴿أفلم يروا﴾ الرأيان المشهوران قدره الزمخشري أفعموا فلم يروا وغيره يدعي أن الهمزة مقدمة على حرف العطف، وقوله ﴿من السماء﴾ بيان للموصول فيتعلق بمحذوف، ويجوز أن يكون حالاً فيتعلق به أيضاً قيل : وثم حال محذوفة تقديره : أفلم يروا إلى كذا مقهوراً تحت قدرتنا أو محيطاً بهم فيعلموا أنهم حيث كانوا فإن أرضي وسمائي محيطة بهم لا يخرجون من أقطارها، وأنا القادر عليهم وقرأ حمزة والكسائي ﴿إن يشأ يخسف بهم الأرض أو يسقط﴾ بالياء في الثلاثة كقوله تعالى ﴿افترى على الله كذباً﴾ والباقون بالنون، وأدغم الكسائي الفاء في الباء وأظهرها الباقون ﴿إن في ذلك﴾ أي : فيما ترون من السماء والأرض ﴿لآية﴾ أي : علامة بينة تدل على قدرتنا على البعث ﴿لكل عبد﴾ أي : متحقق أنه مربوب ضعيف مسخر لما يراد منه ﴿منيب﴾ أي : فيه قابلية الرجوع إلى ربه بقلبه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٠
ولما ذكر تعالى من ينيب من عباده وكان من جملتهم داود عليه السلام كما قال ربه ﴿فاستغفر ربه وخر راكعاً وأناب﴾ (ص : ٢٤)
ذكره بقوله تعالى :
﴿ولقد آتينا﴾ أي : أعطينا إعطاء عظيماً دالاً على نهاية المكنة بما لنا من العظمة ﴿داود منا فضلاً﴾ أي : النبوة والكتاب، أو الملك أو جميع ما أوتي من حسن الصوت وتليين الحديد وغير ذلك مما خص به، وهذا الأخير أولى.
تنبيه : قوله تعالى ﴿منا﴾ فيه إشارة إلى بيان فضل داود عليه السلام لأن قوله تعالى ﴿ولقد آتينا داود منا فضلاً﴾ مستقل بالمفهوم وتام كما يقول القائل : آتى الملك زيداً خلعة فإذا قال القائل : أتاه منه خلعه يفيد أنه كان من خاص ما يكون له، فكذلك إيتاء الله تعالى الفضل عام لكن النبوة من عنده خاص بالبعض ونظيره قوله تعالى ﴿يبشرهم ربهم برحمة منه ورضوان﴾ (التوبة : ٢١) فإن رحمة الله تعالى واسعة تصل إلى كل أحد، لكن رحمته في الآخرة على المؤمنين رحمة من عنده لخواصه وقوله تعالى ﴿يا جبال﴾ محكي بقول مضمر ثم إن شئت قدرته مصدراً، ويكون بدلاً من فضل على جهة تفسيره به كأنه قيل آتيناه فضلاً قولنا يا جبال، وإن شئت قدرته فعلاً وحينئذ لك وجهان : إن شئت جعلته بدلاً من آتينا معناه آتينا قلنا : يا جبال، وإن شئت جعلته مستأنفاً ﴿أوبي﴾ أي : رجّعي ﴿معه﴾ بالتسبيح إذا سبح أمر من التأويب وهو الترجيع وقيل : التسبيح بلغة الحبشة وقال العيني : أصله من التأويب في السير، وهو أن يسير النهار كله وينزل ليلاً كأنه يقول : أوبي النهار كله بالتسبيح معه وقال وهب : نوحي معه وقيل : سيري معه وقوله تعالى ﴿والطير﴾ منصوب بإجماع القراء السبعة واختلف في وجه نصبه على أوجه : أحدها : أنه عطف على محل جبال لأنه منصوب تقديراً لأن كل منادى في موضع نصب. الثاني : أنه عطف على فضلاً قاله الكسائي، ولابد من حذف مضاف تقديره آتيناه فضلاً وتسبيح الطير. الثالث : أنه منصوب بإضمار فعل أي : وسخرنا له الطير قاله أبو عمرو.
تنبيه : لم يكن الموافق له في التأويب منحصراً في الطير والجبال ولكن ذكر الجبال لأن الصخور للجمود والطير للنفور وكلاهما تستبعد منه الموافقة، فإذا وافقته هذه الأشياء فغيرها أولى، ثم من الناس من لم يوافقه وهم القاسية قلوبهم التي هي أشد قسوة قال المفسرون : كان داود عليه
٣٥١
الصلاة والسلام إذ نادى بالنياحة أجابته الجبال بصداها، وعكفت الطير عليه من فوقه فصدى الجبال الذي يسمعه الناس اليوم من ذلك وقيل : كان داود إذا تخلل الجبال فسبح الله جعلت الجبال تجاوبه بالتسبيح نحو ما يسبح، وقيل : كان داود إذا لحقه فتور أسمعه الله تسبيح الجبال تنشيطاً له. وقال وهب بن منبه : كان يقول للجبال سبحي، وللطير أجيبي، ثم يأخذ في تلاوة الزبور بين تلك بصوته الحسن فلا يرى الناس منظراً أحسن من ذلك، ولا يسمعون شيئاً أطيب منه، وذلك كما :"كان الحصى يسبح في كف نبينا ﷺ وكف أبي بكر وعمر رضي الله عنهما" وكما :"كان الطعام يسبح في حضرته الشريفة وهو يؤكل"، وكما :"كان الحجر يسلم عليه وأسكفة الباب وحوائط البيت تؤمن على دعائه"، و"حنين الجذع مشهور"، وكما :"كان الضب يشهد له" و"الجمل يشكو إليه ويسجد بين يديه" ونحو ذلك، وكما :"جاء الطائر الذي يسمى الحمرة تشكو الذي أخذ بيضها، فأمره النبي ﷺ برده رحمة لها".
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٠


الصفحة التالية
Icon