﴿يضاعف﴾ بأسهل أمر ﴿له العذاب﴾ جزاء ما أتبع نفسه هواها، الخامس : التهويل بقوله تعالى :﴿يوم القيامة﴾ الذي هو أهول من غيره بما لا يقاس، السادس : الإخبار بالخلود الذي أقل درجاته أن يكون مكثاً طويلاً بقوله تعالى :﴿ويخلد فيه﴾ وقرأ يضاعف ويخلد ابن عامر وشعبة برفع الفاء والدال، والباقون بجزمهما وأسقط الألف من يضاعف مع تشديد العين ابن كثير وابن عامر فالجزم على أنهما بدلان من يلق بدل اشتمال، والرفع على الاستئناف، السابع : التصريح بقوله تعالى :﴿مهاناً﴾ فلما أعظم الأمر من هذه الأوجه علم أن كلاً من هذه الذنوب كبير، وإذا كان الأعم كبيراً كان الأخص المذكور أعظم من مطلق الأعم ؛ لأنه زاد عليه بما صار به خاصاً فثبت بهذا أنها كبائر وإن قتل الولد والزنا بحليلة الجار أكبر ما ذكر فوجد تصديق الآية للخبر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢
وقرأ حفص مع ابن كثير بصلة الهاء بالياء من فيه قبل مهاناً، فإن قيل : ذكر أن من صفات عباد الرحمن صفات حسنة فكيف يليق بعد ذلك أن يطهرهم عن الأمور العظيمة مثل الشرك والقتل والزنا فلو كان الترتيب بالعكس كان أولى ؟
أجيب : بأن الموصوف بتلك الصفات السابقة قد يكون متمسكاً بالشرك تديناً وبقتل الموؤدة تديناً وبالزنا تديناً فبين تعالى أن المراد لا يصير بتلك الخصال وحدها من عباد الرحمن حتى يجتنب تلك الكبائر، وأجاب الحسن بأن المقصود من ذلك التنبيه
٣٥
على الفرق بين سيرة المسلمين وسيرة الكفار كأنه قال تعالى : وعباد الرحمن الذين لا يدعون مع الله إلهاً آخر، وأنتم تدعون ولا يقتلون وأنتم تقتلون الموؤدة ولا يزنون وأنتم تزنون، ولما أتم تعالى : تهديد الفجار على هذه الأوزار أتبعه ترغيب الأبرار إلى العزيز الغفار بقوله تعالى :
﴿إلا من تاب﴾ أي : رجع عن كل شيء كان فيه من هذه النقائص ﴿وآمن﴾ أي : أوجد الأساس الذي لا يثبت عمل بدونه وهو الإيمان وأكد رجوعه بقوله تعالى :﴿وعمل عملاً صالحاً﴾ أي : مؤسساً على أساس الإيمان، فإن قيل : العمل الصالح يدخل فيه التوبة والإيمان فذكرهما قبل العمل الصالح يستغني عنه ؟
أجيب : بأنهما أفردا بالذكر لعلو شأنهما.
تنبيه : اختلف في هذا الاستثناء على وجهين ؛ أحدهما : أنه استثناء متصل وهو ما دل عليه كلام الجمهور لأنه من الجنس، والثاني : أنه منقطع ورجحه أبو حيان معللاً بأن المستثنى منه محكوم عليه بأنه يضاعف له العذاب، فيصير التقدير إلا من تاب وآمن وعمل عملاً صالحاً فلا يضاعف له العذاب، ولا يلزم من انتفاء التضعيف انتفاء العذاب غير المضعف بخلافه في المنقطع، فإن التقدير لكن من تاب إلى آخره، فلا يلقى عذاباً البتة، ووجه كلام الجمهور بأن ما ذكر ليس بلازم إذ المقصود الإخبار بأن من فعل كذا فإنه يحل به ما ذكر إلا أن يتوب وأما إصابة أصل العذاب وعدمه فلا تعرض في الآية له، ثم زاد تعالى في الترغيب بالإتيان بالفاء ربطاً للجزاء بالشرط دليلاً على أنه سببه، فقال تعالى :﴿فأولئك﴾ أي : العالو المنزلة ﴿يبدل الله﴾ أي : الذي له العظمة والكبرياء ﴿سيئاتهم حسنات﴾ قال ابن عباس ومجاهد : هذا التبديل في الدنيا فيبدل الله تعالى قبائح أعمالهم في الشرك بمحاسن الأعمال في الإسلام، فيبدلهم بالشرك إيماناً وبقتل المؤمنين قتل المشركين وبالزنا إحصاناً وعفة، فكأنه تعالى يبشرهم بتوفيقهم لهذه الأعمال الصالحة فيستوجبوا بها الثواب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٢
وقال الزجاج : إن السيئة بعينها لا تصير حسنة فالتأويل أن السيئة تمحى بالتوبة وتكتب مع التوبة حسنة، والكافر يحبط الله عمله ويثبت عليه السيئات، وقال سعيد بن المسيب ومكحول : إن الله تعالى يمحو السيئة عن العبد ويثبت له بدلها الحسنة بحكم هذه الآية وهذا هو ظاهر الآية ويدل له ما روى أبو هريرة أن رسول الله ﷺ قال :"إني لأعلم آخر رجل يخرج من النار رجل يؤتى به يوم القيامة فيقال له اعرضوا عليه صغار ذنوبه وارفعوا عنه كبارها، فيعر ض عليه صغارها، فيقال له : عملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، وعملت يوم كذا وكذا كذا وكذا، فيقول : نعم فلا يستطيع أن ينكر وهو مشفق من كبار ذنوبه أن تعرض عليه فيقال له : إن لك مكان كل سيئة حسنة فيقول : يا رب قد عملت أشياء لا أراها ههنا، قال أبو هريرة : فلقد رأيت رسول الله ﷺ ضحك حتى بدت نواجذه" ﴿وكان الله﴾ أي : الذي له الجلال والإكرام على الإطلاق أزلاً وأبداً ﴿غفوراً﴾ أي : ستور الذنوب كل من تاب بهذا الشرط ﴿رحيماً﴾ به بأن يعامله بالإكرام كما يعامل المرحوم فيعطيه مكان كل سيئة حسنة.
روى البخاري عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في أهل الشرك ولما نزل صدرها قال أهل مكة : قد عدلنا بالله وقتلنا النفس التي حرم الله وأتينا الفواحش فأنزل الله إلا من تاب إلى
٣٦