فإن قيل : كيف عظم الله تعالى جنتي أهل سبأ وجعلهما آية ورب قرية من قرى العراق يحتف بها من الجنات ما شئت ؟
أجيب : بأنه لم يرد بستانين اثنين فحسب، وإنما أراد جماعتين من البساتين جماعة عن يمين بلدتهم، وأخرى عن شمالها وكل واحدة من الجماعتين في تقاربها وتضامها كأنها جنة واحدة كما تكون بلاد الريف العامرة وبساتينها، أو أراد بستاني كل رجل منهم عن يمين مسكنه وشماله كما قال تعالى ﴿جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب﴾ (الكهف : ٣٢) فكانت
٣٦٠
أخصب البلاد وأطيبها وأكثرها ثماراً حتى كانت المرأة تضع على رأسها مكتلاً فتطوف به بين الأشجار فيمتلئ المكتل من جميع أنواع الفواكه من غير أن تمس شيئاً بيدها مما يتساقط فيه من الثمر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٩
وقوله تعالى ﴿كلوا من رزق ربكم﴾ أي : المحسن إليكم الذي أخرج لكم منهما ما تشتهون ﴿واشكروا له﴾ أي : خصوه بالشكر بالعمل في كل ما يرضيه ليديم لكم النعمة حكاية لما قال لهم نبيهم، أو لسان الحال أو دلالة بأنهم كانوا أحقاء بأن يقال لهم ذلك، ثم استأنف تعظيم ذلك بقوله ﴿بلدة طيبة﴾ أي : حسنة التربة ليس بها سباخ، حسنة الهواء سليمة من الهوام ليس فيها بعوضة ولا ذبابة ولا برغوث ولا عقرب ولا حية يمر الغريب بها وفي ثيابه القمل فيموت من طيب هوائها، وأشار إلى أنه لا يقدر أحد أن يقدره حق قدره بقوله تعالى :﴿ورب غفور﴾ أي : لذنب من شكره وتقصيره فلا يعاقب عليه ولا يعاتب قال البقاعي : وأخبرني بعض أهل اليمن أنها اليوم مفازة قرب صنعاء قال : وفي بعضها عنب يعمل منه زبيب كبار جداً في مقدار دربلي بلاد الشام، وهو في غاية الصفاء كأنه قطع المصطكي وليس له نوى أصلاً انتهى.
ولما تسبب عن هذا الإنعام بطرهم الموجب لإعراضهم عن الشكر دل على ذلك بقوله تعالى :
﴿فأعرضوا﴾ أي : عن الشكر فكفروا قال وهب : أرسل الله تعالى إلى سبأ ثلاثة عشر نبياً فدعوهم إلى الله تعالى وذكروهم نعم الله تعالى عليهم وأنذروهم عقابه فكذبوهم وقالوا : ما نعرف لله تعالى علينا من نعمة فقولوا لربكم : فليحبس هذه النعمة عنا إن استطاع.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٥٩
ولما تسبب عن إعراضهم مقتهم بينه بقوله تعالى :﴿فأرسلنا عليهم سيل العرم﴾ جمع عرمة وهو ما يمسك الماء من بناء وغيره إلى وقت حاجته أي : سيل واديهم فأغرق جنتيهم وأموالهم. قال ابن عباس رضي الله عنهما ووهب وغيرهما : كان ذلك السد بنته بلقيس وذلك أنهم كانوا يقتتلون على ماء واديهم فأمرت بواديهم فسد بالعرم وهو المسناة بلغة حمير، فسدت ما بين الجبلين وجعلت له أبواباً ثلاثة بعضها فوق بعض وبنت منه دونها بركة ضخمة، وجعلت فيها اثني عشر مخرجاً على عدة أنهارهم يفتحونها إذا احتاجوا إلى الماء، وإذا استغنوا سدوها فإذا جاء المطر اجتمع إليه ماء أودية اليمن فاحتبس السيل من وراء السد فأمرت بالباب الأعلى ففتح فجرى ماؤه في البركة فكانوا يسقون من الباب الأعلى، ثم من الثاني ثم من الثالث الأسفل فلا ينفد الماء حتى يثوب الماء من السنة المقبلة، فكانت تقسمه بينهم على ذلك فبقوا على ذلك بعدها مدة فلما طغوا وكفروا سلط الله تعالى عليهم جرذاً يسمى الخلد فنقب السد من أسفله فأغرق الماء جنتيهم وأموالهم، وخرب أرضهم قال وهب : وكانوا فيما يزعمون ويجدون في علمهم وكهانتهم أنه يخرب سدهم فأرة فلم يتركوا فرجة بين حجرين إلا ربطوا عندها هرة فلما جاء زمانه وما أراد الله تعالى بهم من التغريق أقبلت فيما يذكرون فأرة حمراء كبيرة إلى هرة من تلك الهرر فساورتها حتى استأخرت عنها الهرة فدخلت في الفرجة التي كانت عندها فتغلغلت في السد فنقبت وحفرت حتى أوهنته للسيل، وهم لا يدرون ذلك فلما جاء السيل وجد خللاً فدخل فيه حتى اقتلع السد وفاض على أموالهم فغرقها ودفن بيوتهم الرمل فغرقوا ومزقوا كل مزق حتى صاروا مثلاً عند العرب يقولون : صار بنو فلان أيدي سبأ وتفرقوا أيادي سبأ أي : تفرقوا وتبددوا قيل : والأوس والخزرج منهم قال البقاعي : وكان ذلك في الفترة التي كانت بين عيسى ونبينا صلى الله عليه وسلم
٣٦١


الصفحة التالية
Icon