وكقولهم للرسول ﴿أجئتنا لتأفكنا عن آلهتنا﴾ (الأحقاف : ٢٢)
﴿وقال الذين كفروا﴾ أي : ستروا ما دلت عليه العقول من جهة القرآن ﴿للحق﴾ أي : الهدى الذي لا أثبت منه باعتبار كمال الحقيقة فيه ﴿لما جاءهم﴾ من غير نظر ولا تأمل ﴿أن﴾ أي : ما ﴿هذا﴾ أي : الثابت الذي لا شيء أثبت منه ﴿إلا سحر﴾ أي : خيال لا حقيقة له ﴿مبين﴾ أي : ظاهر قال ابن عادل : وهذا إنكار للتوحيد وكان مختصاً بالمشركين، وأما إنكار القرآن والمعجزة فكان متفقاً عليه بين المشركين وأهل الكتاب فقال تعالى :﴿وقال الذين كفروا﴾ على العموم انتهى. ولم يحملهم على ذلك إلا الحظوظ النفسانية والعلق الشهوانية قال الطفيل بن عمرو الدوسي ذو النور :"لقد أكثروا علي في أمره ﷺ حتى حشوت في أذني ماء الكرفس خوفاً من أن يخلص إلي شيء من كلامهم فيفتنني، ثم أراد الله تعالى لي الخير فقلت واثكل أمي إني والله للبيب عاقل شاعر ولي معرفة بغث الكلام من سمينه فما لي لا أسمع منه فإن كان حقاً تبعته، وإن كان باطلاً كنت منه على بصيرة أو كما قال قال : فقصدت النبي ﷺ فقلت : أعرض على ما جئت به فلما عرضه علي قلت : بأبي وأمي ما سمعت قولاً قط هو أحسن منه ولا أمراً أعدل منه فما توقفت في أن أسلمت ثم سأل النبي ﷺ في أن يدعو له الله تعالى أن يعطيه آية يعينه بها على قومه، فلما أشرف على حاضر قومه كان له نور في جبهته فخشي أن يظنوا أنها مثلة فدعا الله تعالى بتحويله فتحول في طرف سوطه فأعانه الله تعالى على قومه فأسلموا".
٣٧٧
تنبيه : في تكرير الفعل وهو قال : والتصريح بذكر الكفرة وما في لامي الذين والحق من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه، وما في لما من المفاجأة إلى البت بهذا القول إنكار عظيم للقول وتعجيب بليغ منه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٧٥
ولما بارزوا بهذا القول من غير أثارة من علم ولا خبر من سمع بين ذلك بقوله تعالى :
﴿وما﴾ أي : قالوا ذلك والحال أنا ما ﴿آتيناهم﴾ أي : هؤلاء العرب ﴿من كتب﴾ أصلاً لأنهم لم ينزل عليهم قط قبل القرآن كتاب، وأتى بصيغة الجمع مع تأكيد النفي قبل كتابك الجامع ﴿يدرسونها﴾ أي : يجددون دراستها كل حين فيها دليل على صحة الإشراك ﴿وما أرسلنا﴾ أي : إرسالاً لا شبهة فيه لمناسبته لما لنا من العظمة ﴿إليهم﴾ أي : خاصة بمعنى أن ذلك الرسول مأمور بهم بأعيانهم فهم مقصودون بالذات لا أنهم داخلون في عموم أو مقصودون من باب الأمر بالمعروف وفي جميع الزمان الذي ﴿قبلك﴾ أي : قبل رسالتك الجامعة لكل رسالة ﴿من نذير﴾ أي : ليكون عندهم قول منه يدعوهم إلى الإشراك أو ينذرهم على تركه وهذا في غاية التجهيل لهم والتسفيه لرأيهم، ثم هددهم بقوله تعالى :
﴿وكذب الذين من قبلهم﴾ أي : من قوم نوح ومن بعدهم بادروا إلى ما بادر إليه هؤلاء من التكذيب، لأن التكذيب كان في طباعهم لما عندهم من الجلافة والكبر ﴿وما بلغوا﴾ أي : هؤلاء ﴿معشار ما آتيناهم﴾ أي : عشراً صغيراً مما آتينا أولئك من القوة في الأبدان والأموال والمكنة في كل شيء من العقول وطول الأعمار والخلو من الشواغل ﴿فكذبوا﴾ أي : بسبب ما طبعوا عليه من العناد ﴿رسلي﴾ إليهم ﴿فكيف كان نكير﴾ أي : إنكاري على المكذبين لرسلي بالعقوبة والإهلاك أي : هو واقع موقعه فليحذر هؤلاء من مثله ولا تكرير في كذب لأن الأول للتكثير أي : فعلوا التكذيب كثيراً فكان سبباً لتكذيب الرسل والثاني : للتكذيب أو الأول : مطلق والثاني : مقيد ولذلك عطف عليه.
﴿قل إنما أعظكم﴾ أي : أرشدكم وأنصح لكم ﴿بواحدة﴾ أي : بخصلة واحدة هي ﴿أن تقوموا﴾ أي : توجهوا نفوسكم إلى تعرف الحق وعبر بالقيام إشارة إلى الاجتهاد ﴿لله﴾ أي : الذي لا أعظم منه على وجه الإخلاص واستحضار ما له من العظمة بما له لديكم من الإحسان لا لإرادة المغالبة حال كونكم ﴿مثنى﴾ أي : اثنين اثنين قال البقاعي : وقدمه إشارة إلى أن أغلب الناس ناقص العقل ﴿وفرادى﴾ أي : واحداً واحداً من وثق بنفسه في رصانة عقله وإصابة رأيه قام وحده ليكون أصفى لسره وأعون على خلوص فكره، ومن خاف عليها ضم إليه آخر ليذكره إذا نسي ويقومه إذا زاغ، ولم يذكر غيرهما من الأقسام لأن الازدحام يشوش الخواطر ويخلط القول.