﴿الذين كفروا لهم عذاب شديد﴾ أي : في الدنيا بفوات ما يأملونه مع تفرقة قلوبهم وانسداد بصائرهم وسفالة هممهم حتى أنهم رضوا أن يكون إلههم حجراً، وفي الآخرة بالسعير التي دعاهم إلى صحبتها، ثم بين حزبه تعالى بقوله سبحانه ﴿والذين آمنوا وعملوا﴾ أي : تصديقاً لإيمانهم ﴿الصالحات﴾ من صلاة وزكاة وصوم وغير ذلك من المأمورات ﴿لهم مغفرة﴾ أي : ستر لذنوبهم في الدنيا ولولا ذلك لافتضحوا، وفي الآخرة بحيث لا عتاب ولا عقاب ولولا ذلك لهلكوا ﴿أجر كبير﴾ هو الجنة والنظر إلى وجهه الكريم، فالمغفرة في مقابلة الإيمان فلا يؤبد مؤمن في النار، والأجر الكبير في مقابلة العمل الصالح، ونزل كما قال ابن عباس في أبي جهل ومشركي العرب :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٥
أفمن زين له سوء عمله﴾ أي : قبحه الذي من شأنه أن يسوء صاحبه حالاً أو مآلاً بأن غلب وهمه وهواه على عقله ﴿فرآه﴾ أي : السيء بسبب التزيين ﴿حسناً﴾ أي : عملاً صالحاً ﴿فإن﴾ أي : السبب في رؤية الأشياء على غير ما هي عليه أن ﴿الله﴾ أي : الذي له الأمر كله ﴿يضل من يشاء﴾ فلا يرى شيئاً على ما هو به فيقدم على الهلاك البيِّن وهو يراه عين النجاة ﴿ويهدي من يشاء﴾ فلا يشكل عليه أمر ولا يفعل إلا حسناً.
تنبيه : من موصول مبتدأ وما بعده صلته، والخبر محذوف، واختلف في تقديره فقدره الكسائي : تذهب نفسك عليهم حسرات لدلالة قوله تعالى تسلية لرسوله ﷺ حيث حزن على إصرارهم بعد إتيانه بكل آية ظاهرة وحجة قاهرة ﴿فلا تذهب نفسك عليهم﴾ أي : المزيّن لهم ﴿حسرات﴾ أي : لأجل حسراتك المترادفة لأجل إعراضهم، جمع حسرة وهي شدة الحزن على ما فات من الأمر، وقدره الزجاج وأضله الله كمن هداه، وقدره غيرهما كمن لم يزين له، وهو أحسن لموافقته لفظاً ومعنى، ونظيره ﴿أفمن كان على بينة من ربه﴾ (هود : ١٧)
أي : كمن هو أعمى ﴿أفمن يعلم إنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى﴾ (الرعد : ١٩)
وقال سعيد بن جبير : نزلت هذه الآية في أصحاب الأهواء والبدع قال قتادة : منهم الخوارج الذين يستحلون دماء المسلمين وأموالهم، فأما أهل الكتاب فليسوا منهم ؛ لأنهم لا يستحلون الكبائر ﴿إن الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات
٣٨٦
الكمال ﴿عليم﴾ أي : بالغ العلم ﴿بما يصنعون﴾ فيجازيهم عليه.
ثم عاد تعالى إلى البيان بقوله سبحانه :
﴿والله﴾ أي : الذي له صفات الكمال لا شيء غيره من طبيعة ولا غيرها ﴿الذي أرسل الرياح﴾ أي : أوجدها من العدم فهبوبها دليل على الفاعل المختار، لأن الهواء قد يسكن وقد يتحرك وعند حركته قد يتحرك إلى اليمين وقد يتحرك إلى الشمال، وفي حركاته المختلفة قد ينشئ السحاب وقد لا ينشئ فهذه الاختلافات دليل على مسخر مدبر مؤثر مقدر وقوله تعالى ﴿فتثير سحاباً﴾ عطف على أرسل ؛ لأن أرسل بمعنى المستقبل فلذلك عطف عليه وأتى بأرسل لتحقيق وقوعه وب"تثير" لتصور الحال واستحضار الصورة البديعة الدالة على كمال الحكمة كقوله تعالى ﴿أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة﴾ (الحج : ٦٣)
ولما أسند فعل الإرسال إليه تعالى وما يفعله يكون بقوله تعالى :﴿كن﴾ فلا يبقى في العدم لا زماناً ولا جزءاً من الزمان فلم يقل بلفظ المستقبل لوجوب وقوعه وسرعة تكوينه فكأنه كان، ولأنه فرغ عن كل شيء فهو قدر الإرسال في الأوقات المعلومة إلى المواضع المعينة.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٥
ولما أسند فعل الإثارة إلى الريح وهي تؤلف في زمان فقال ﴿تثير﴾ أي : على هيئتها، وقرأ ابن كثير وحمزة والكسائي بالتوحيد، والباقون بالجمع وقوله تعالى ﴿فسقناه﴾ فيه التفاف عن الغيبة ﴿إلى بلد ميت﴾ أي : لا نبات بها، وقرأ نافع وحفص وحمزة والكسائي بتشديد الياء، والباقون بالتخفيف ﴿فأحيينا به﴾ أي : بالمطر النازل منه، وذِكْر السحاب كذكر المطر حيث أقيم مقامه أو بالسحاب فإنه سبب السبب أو الصائر مطراً ﴿الأرض﴾ بالنبات والكلأ ﴿بعد موتها﴾ أي : يَبَسِها.
تنبيه : العدول في :"سقنا" و"أحيينا" من الغيبة في قوله تعالى ﴿والله الذي أرسل الرياح﴾ إلى ما هو أدخل في الاختصاص وهو التكلم فيهما لما فيهما من مزيد الصنع، والكاف في قوله تعالى ﴿كذلك﴾ في محل رفع أي : مثل إحياء الموات ﴿النشور﴾ للأموات وجه الشبه من وجوه : أولها : أن الأرض الميتة قبلت الحياة كذلك الأعضاء تقبل الحياة. ثانيها : كما أن الريح يجمع السحاب المقطع كذلك تجمع الأعضاء المتفرقة. ثالثها : كما أنا نسوق الريح والسحاب إلى البلد الميت كذلك نسوق الروح إلى الجسد الميت.
فإن قيل : ما الحكمة في اختيار هذه الآية من بين الآيات مع أن الله تعالى له في كل شيء آية تدل على أنه واحد ؟
أجيب : بأنه تعالى لما ذكر كونه فاطر السموات والأرض وذكر من الأمور السماوية الأرواح وإرسالها بقوله تعالى :﴿جاعل الملائكة رسلاً﴾ (فاطر : ١)