ولما بيّن ما يحصل العزة من عليّ الهمة بين ما يكسب المذلة ويوجب النقمة من رديء الهمة بقوله تعالى :﴿والذين يمكرون﴾ أي : يعملون على وجه المكر أي : الستر، المكرات :﴿السيئات﴾ أي : مكرات قريش بالنبي ﷺ في دار الندوة وتداورهم الرأي في إحدى ثلاث : حبسه وقتله وإجلاؤه كما قال تعالى ﴿وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك﴾ الآية (الأنفال : ٣٠)، وقال الكلبي : معناه يعملون السيئات وقال مقاتل : يعني الشرك، وقال مجاهد : هم أصحاب الرياء ﴿لهم عذاب شديد﴾ أي : لا توبة دونه بما يمكرون ﴿ومَكْر أولئك﴾ أي : البعداء من الفلاح ﴿هو﴾ أي : وحده دون مكر من يريد بمكره الخير فإن الله ينفذه ويعلي أمره ﴿يبور﴾ أي : يفسد ولا ينفذ إذ الأمور مقدرة فلا تتغتير بسبب مكرهم كما دل عليه بقوله تعالى :
﴿والله خلقكم من تراب﴾ أي : بتكوين أبيكم آدم منه فمزجه مزجاً لا يمكن لغيره تمييزه، ثم أحاله عن ذلك الجوهر أصلاً ورأساً، وإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿ثم﴾ أي : بعد ذلك في الزمان والرتبة خلقكم ﴿من نطفة﴾ أي : جعلها أصلاً ثانياً من ذلك الأصل الترابي أشد امتزاجاً منه ﴿ثم﴾ بعد أن أنهى التدبير زماناً ورتبة إلى النطفة التي لا مناسبة بينها وبين التراب دلالة على كمال القدرة والفعل بالاختيار ﴿جعلكم أزواجاً﴾ أي : بين ذكور وإناث دلالة هي أظهر مما قبلها على الاختيار، وعن قتادة : زوج بعضكم بعضاً.
تنبيه : يصح أن يقال كما قال ابن عادل : خلقكم خطاب مع الناس وهم أولاد آدم عليه السلام وكلهم من تراب ومن نطفة ؛ لأن كلهم من نطفة، والنطفة من غذاء، والغذاء ينتهي بالآخرة إلى الماء والتراب فهم من تراب صار نطفة.
ولما بين تعالى بقوله سبحانه :﴿خلقكم من تراب﴾ كمال قدرته بين بقوله سبحانه ﴿وما تحمل من أنثى ولا تضع﴾ أي : حملاً ﴿إلا﴾ أي : مصحوباً ﴿بعلمه﴾ أي : في وقته ونوعه وشكله وغير ذلك من شأنه مختصاً بذلك كله حتى عن أمّه التي هي أقرب إليه فلا يكون إلا بقدرته فما شاء أتمه وما شاء أخرجه كمال علمه.
ثم بين نفوذ إرادته بقوله تعالى :﴿وما يعمر من معمر﴾ أي : وما يمد في عمره من مصغره إلى كبر، وإنما سماه معمراً بما هو صائر إليه فمعناه : وما يعمر من أحد، وفي عود ضمير قوله تعالى ﴿ولا ينقص من عمره﴾ قولان : أحدهما : أنه يعود على معمر آخر ؛ لأن المراد بقوله تعالى :﴿من معمر﴾ الجنس فهو يعود عليه لفظاً لا معنى ؛ لأنه بعد أن فرض كونه معمراً استحال أن ينقص من عمره نفسه كما يقال : لفلان عندي درهم ونصفه أي : نصف درهم آخر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٥
والثاني : أنه يعود على المعمر نفسه لفظاً ومعنى، والمعنى : أنه إذا ذهب من عمره حول أحصى وكتب ثم حول آخر كذلك فهذا هو النقص، وإليه ذهب ابن عباس وابن جبير وأبو مالك ومنه قول الشاعر :
*حياتك أنفاس تعد فكلما ** مضى نفس منك انتقصت به جزأ*
٣٨٩
وقال الزمخشري : هذا من الكلام المتسامح فيه ثقة في تأويله بأفهام السامعين واتكالاً على تسديدهم معناه بعقولهم، وأنه لا يلتبس عليهم إحالة الطول والقصر في عمر واحد، وعليه كلام الناس المستفيض يقولون : لا يثيب الله عبداً ولا يعاقبه إلا بحق قال : وفيه تأويل آخر وهو : أنه لا يطول عمر إنسان ولا يقصر إلا في كتاب، وصورته : أن يكتب في اللوح : إن حج فلان أو غزا فعمره أربعون سنة، وإن حج وغزا فعمره ستون سنة فإذا جمع بينهما فبلغ الستين فقد عمر، وإذا أفرد أحدهما فلم يتجاوز به الأربعون فقد نقص عن عمره الذي هو الغاية وهو الستون، وإليه أشار رسول الله ﷺ في قوله :"إن الصدقة والصلة تعمران الديار وتزيدان في الأعمار".
وعن كعب أنه قال حين طعن عمر رضي الله تعالى عنه : لو أن عمر دعا الله لأخر في أجله فقيل لكعب : أليس قد قال الله تعالى ﴿فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون﴾ (الأعراف : ٣٤)
فقال : هذا إذا حضر الأجل فأما قبل ذلك فيجوز أن يزاد وينقص، وقرأ هذه الآية وقد استفاض على الألسنة : أطال الله تعالى بقاءك، وفسح في مدتك وما أشبهه.
وعن سعيد بن جبير : يكتب في الصحيفة عمره كذا وكذا سنة، ثم يكتب في أسفل ذلك ذهب يوم ذهب يومان ذهب ثلاثة أيام حتى يأتي على آخره، وعن قتادة المعمر من بلغ ستين سنة، والمنقوص من عمره من يموت قبل ستين سنة، والكتاب في قوله تعالى ﴿إلا في كتاب﴾ أي : مكتوب فيه عمر فلان كذا وكذا، وعمر فلان كذا إن عمل كذا وعمره كذا إن لم يعمل كذا هو اللوح المحفوظ قاله ابن عباس، قال الزمخشري : ويجوز أن يراد بكتاب الله علم الله تعالى أو صحيفة الإنسان.
ولما كان ذلك أمراً لا يحيط به العد ولا يحصره الحد فكان في عداد ما ينكره الجهلة قال تعالى مؤكداً لسهولته ﴿إن ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من كتب الآجال كلها وتقديرها ﴿على الله﴾ أي : الذي له جميع العزة ﴿يسير﴾ أي : هين. وقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٨٥
٣٩٠