﴿وما يستوي البحران هذا عذب﴾ أي : طيب حلو لذيذ ملائم طبعه ﴿فرات﴾ أي : بالغ العذوبة ﴿سائغ شرابه﴾ أي : شربه مرئ سهل انحداره لما له من اللذة والملايمة للطبع ﴿وهذا ملح أجاج﴾ أي : جمع إلى الملوحة المرارة فلا يسوغ شرابه بل لو شرب لآلم الحلق وأجج في البطن ما هو كالنار ضرب مثلاً للمؤمن والكافر، وقوله تعالى :﴿ومن كل﴾ أي : الملح والعذب ﴿تأكلون﴾ أي : من السمك المنّوع إلى أنواع تفوت الحصر ﴿لحماً طرياً﴾ أي : شهي المطعم ﴿وتستخرجون﴾ أي : من الملح دون العذب ﴿حلية تلبسونها﴾ أي : نساؤكم من الجواهر الدر والمرجان وغيرهما، ذكر استطراداً في صفة البحرين وما فيهما من النعم وتمام التمثيل، والمعنى : كما أنهما وإن اشتركا في بعض الفوائد لا يتساويان من حيث إنهما لا يتساويان فيما هو مقصود بالذات من الماء فإنه خالط أحدهما ما أفسده، وغيره عن كمال فطرته فلا يتساوى المؤمن والكافر وإن اتفق اشتراكهما في بعض الصفات كالشجاعة والسخاوة لاختلافهما فيما هو الخاصة العظمة وهي بقاء أحدهما على الفطرة الأصلية دون الآخر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٠
وقيل : تخرج الحلية منهما كما هو ظاهر قوله تعالى ﴿يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان﴾ (الرحمن : ٢٢)
قال البغوي : لأنه قد يكون في البحر الأجاج عيون عذبة تمتزج بالملح فيكون اللؤلؤ من ذلك انتهى.
فائدة : عاب المبرد وغيره قول الشافعي رضي الله تعالى عنه : كل ماء من بحر عذب أو مالح فالتطهر به جائز وقالوا : إنه لحن وإنما يقال : ملح كما قال تعالى ﴿وهذا ملح أجاج﴾ وهم مخطئون في ذلك كما قيل :
*وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم السقيم*
*ولكن تأخذ الآذان منه ** على قدر القريحة والفهوم*
قال النووي : وأجاب أصحابنا بأجوبة : أصحها أن فيه أربع لغات : ملح ومالح ومليح وملاح بضم الميم وتخفيف اللام قال عمر بن أبي ربيعة :
٣٩١
*ولو تفلت في البحر والبحر مالح ** لأصبح ماء البحر من ريقها عذبا*
وقال آخر :
*وللرزق أسباب تروح وتغتدي ** وإني منها غير غاد ورائح*
*قنعت بثوب العدم من حلة الغنى ** ومن بارد عذب زلال بمالح*
وقال محمد بن حازم :
*تلونت ألواناً علي كثيرة ** وخالط عذباً من إخائك مالح*
وقال خالد بن يزيد بن معاوية في رملة بنت الزبير :
*ولو وردت ماء وكانت قبيله ** مليحاً شربنا ماءه بارداً عذباً*
وقال الخطابي : يقال : ماء ملاح كما يقال : أجاج وزعاق وزلال قال : وإنما نزل الشافعي من اللغة العالية إلى التي هي أدنى للإيضاح وحسماً للإشكال والالتباس ؛ لئلا يتوهم متوهم أنه أراد بالملح المذاب فيظن أن الطهارة به جائزة.
وثاني الأجوبة : أن الشافعي إمام في اللغة فقوله فيها حجة.
وثالثها : أن هذه اللفظة ليست من كلام الشافعي ولم يذكرها بل من كلام المزني وهذا ليس بشيء، وكيف ينسب الخطأ إلى المزني وعنه مندوحة، وقولهم : لم يذكرها الشافعي غير صحيح وقد أنكره البيهقي وقال : بل سمى الشافعي البحر مالحاً في كتابين "أمالي الحج" و"المناسك الكبير".
فائدة أخرى : وهي أن ابن عمر قال في البحر : التيمم أحب إلينا منه وقال : بحركم هذا نار وتحت النار بحر حتى عد سبعة أبحر وسبعة أنوار، ولكن روى أبو هريرة أن النبي ﷺ قال :"من لم يطهره البحر فلا طهره الله" ويؤول كلام ابن عمر بأنه سيصير يوم القيامة ناراً أو بأنه مهلكة يهلك كما تهلك النار، ولما كان الأكل والاستخراج من المنافع العامة عمَّ الخطاب.
ولما كان استقرار شيء في البحر دون غرق أمراً غريباً لكنه صار لشدة ألفه لا يقوم بأنه من أكبر الآيات دلالة على القادر المختار إلا أهل البصائر خص بالخطاب فقال ﴿وترى الفلك﴾ أي : السفن سمى فلكاً لدورانه وسفينة لقشره الماء، وقدم الظرف في قوله تعالى ﴿فيه﴾ لأنه أشد دلالة على ذلك ﴿مواخر﴾ أي : جواري مستدبرة الريح شاقة للماء بجريها هذه مقبلة وهذه مدبرة وجهها إلى ظهر هذه بريح واحدة يقال : مخرت السفينة الماء ويقال للسحاب : بنات مخر ؛ لأنها تمخر الهواء، والسفن الذي اشتقت منه السفينة قريب من المخر ؛ لأنها تسفن الماء كأنها تقشره كما تمخره ثم علق بالمخر معللاً قوله تعالى ﴿لتبتغوا﴾ أي : تطلبوا طلباً شديداً ﴿من فضله﴾ أي : الله بالتوصل بذلك إلى البلاد الشاسعة للمتاجر وغيرها، ولو جعلها ساكنة لم يترتب عليها ذلك ولم يجر به ذكر في الآية ولكن فيما قبلها، ولو لم يجر لم يشكل لدلالة المعنى عليه ﴿ولعلكم
٣٩٢
تشكرون﴾ أي : وليكون حالكم بهذه الدالة على عظيم قدرة الله تعالى ولطفه حال من يرجى شكره.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٠
تنبيه : حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة ألا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل ؟
كأنما قيل : لتبتغوا ولتشكروا.
ولما ذكر تعالى اختلاف الذوات الدالة على بديع صنعه أتبعه اختلاف الأزمنة الدالة على بديع قدرته بقوله تعالى :
﴿يولج﴾ أي : يدخل الله ﴿الليل في النهار﴾ فيصير الظلام ضياء.