ولما ذكر العبد بوصفه الحقيقي أتبعه ذكر الخالق باسمه الأعظم فقال :﴿والله هو الغني﴾ أي : المستغني على الإطلاق فلا يحتاج إلى أحد ولا إلى عبادة أحد من خلقه، وإنما أمرهم بالعبادة لإشفاقه تعالى عليهم ففي هذا رد على المشركين حيث قالوا للنبي ﷺ إن الله لعله محتاج إلى عبادتنا حتى أمرنا بها أمراً بالغاً وهددنا على تركها مبالغاً، فإن قيل : قد قابل الفقر بالغنى فما فائدة قوله تعالى ﴿الحميد﴾ أي : المحمود في صنعه بخلقه ؟
أجيب : بأنه لما أثبت فقرهم إليه وغناه عنهم وليس كل غني نافعاً بغناه إلا إذا كان الغني منعماً جواداً، وإذا جاد وأنعم حمده المنعم عليهم واستحق عليهم الحمد ذكر الحميد ليدل به على أنه الغني النافع بغناه خلقه الجواد المنعم عليهم المستحق بإنعامه أن يحمدوه وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٠
إن يشأ يذهبكم﴾ أي : جميعاً بيان لغنائه وفيه بلاغة كاملة ؛ لأن قوله تعالى ﴿إن يشأ يذهبكم﴾ أي : ليس إذهابكم موقوفاً إلا على مشيئته بخلاف الشيء المحتاج إليه فإن المحتاج إلى الشيء لا يقال فيه : إن شاء فلان هدم داره، وإنما يقال : لولا حاجة السكنى إلى الدار لبعتها، ثم إنه تعالى زاد على بيان الاستغناء بقوله تعالى :﴿ويأت بخلق جديد﴾ أي : إن كان يتوهم متوهم أن بهذا الملك كماله وعظمته فلو أذهبه لزال ملكه وعظمته فهو قادر أن يخلق خلقاً جديداً أحسن من هذا وأجمل، وعن ابن عباس : يخلق بعدكم من يعبده لا يشرك به شيئاً.
﴿وما ذلك﴾ أي : الأمر العظيم من الإذهاب والإتيان ﴿على الله﴾ أي : المحيط بجميع صفات الكمال خاصة ﴿بعزيز﴾ أي : بممتنع ولا شاق وهو محمود عند الإعدام كما هو محمود عند الإيجاد، فإن قيل : استعمل تعالى العزيز تارة في القائم بنفسه فقال تعالى في حق نفسه ﴿وكان الله قوياً عزيزاً﴾ (الأحزاب : ٢٥)
وقال في هذه السورة ﴿عزيز غفور﴾ (فاطر : ٢٨)
واستعمله تارة في القائم بغيره فقال تعالى ﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾ وقال تعالى ﴿عزيز عليه ما عنتم﴾ (التوبة : ١٢٨)
فهل هما بمعنى واحد أو بمعنيين ؟
أجيب : بأن العزيز في اللغة هو الغالب والفعل إذا كان لا
٣٩٤
يطيقه شخص يقال : هو مغلوب بالنسبة إلى ذلك الفعل فقوله تعالى ﴿وما ذلك على الله بعزيز﴾ أي : ذلك الفعل لا يغلبه بل هو هيّن على الله تعالى وقوله سبحانه ﴿عزيز عليه ما عنتم﴾ أي : يحزنه ويؤذيه كالشغل الغالب.
وقوله تعالى :﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ فيه حذف الموصوف للعلم به أي : ولا تحمل نفس آثمة إثم نفس أخرى، فإن قيل : كيف التوفيق بين هذا وبين قوله تعالى ﴿وليحملن أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم﴾ ؟
(العنكبوت : ١٣)
أجيب : بأن تلك الآية في الضالين المضلين فإنهم يحملون أثقال إضلالهم وكل ذلك أوزارهم وليس فيها شيء من أوزار غيرهم. ﴿وإن تدع﴾ أي : نفس ﴿مثقلة﴾ أي : بالوزر ﴿إلى حملها﴾ أي : من الوزر أحداً ليحمل بعضه ﴿لا يحمل﴾ أي : من حامل ما ﴿منه شيء﴾ أي : لا طواعية ولا كرهاً بل لكل امرئ شأن يغنيه ﴿ولو كان﴾ ذلك الداعي أو المدعو للحمل ﴿ذا قربى﴾ لمن دعاه.
فإن قيل : ما الفرق بين معنى قوله تعالى ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ ومعنى قوله تعالى ﴿وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء﴾ ؟
أجيب : بأن الأول : في الدلالة على عدل الله تعالى في حكمه وأنه لا يؤاخذ نفساً بغير ذنبها، والثاني : في أن لا غياث يومئذ بمن استغاث حتى أن نفساً قد أثقلتها الأوزار لَوْدَعت إلى أن تخفف بعض وزرها لم تجب ولم تغث، وإن كان الداعي أو المدعو بعض قرابتها من أب أو ولد أو أخ قال ابن عباس : يلقى الأب أو الأم ابنه فيقول : يا بني احمل عني بعض ذنوبي فيقول لا أستطيع حسبي ما علي.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٠
تنبيه : أضمر الداعي أو المدعو بدلالة إن تدع عليه.
ولما كان رسول الله ﷺ أسمعهم ذلك فلم ينفعهم نزل ﴿إنما تنذر﴾ أي : إنذاراً يفيد الرجوع عن الغي ﴿الذين يخشون ربهم﴾ أي : المحسن إليهم فيوقعون هذا الفعل في الحال ويواطئون عليه في الاستقبال، ولما كان أولى الناس عقلاً وأعلاهم همة من كان غيبه مثل حضوره قال تعالى ﴿بالغيب﴾ وهو حال من الفاعل أي : يخشونه غائبين بين عنه أو من المفعول أي : غائباً عنهم.
ولما كانت الصلاة جامعة للخضوع الظاهر والباطن فكانت أشرف العبادات وكانت إقامتها بمعنى حفظ جميع حدودها في كل حال أدل الطاعات على الإخلاص قال تعالى معبراً بالماضي ؛ لأن مواقيت الصلاة مضبوطة ﴿وأقاموا﴾ أي : دليلاً على خشيتهم ﴿الصلاة﴾ في أوقاتها الخمسة وما يتبع ذلك من السنن ﴿ومن تزكى﴾ أي : تطهر بفعل الطاعات وترك المعاصي ﴿فإنما يتزكى لنفسه﴾ إذ نفعه لها ﴿وإلى الله﴾ أي : الذي لا إله غيره ﴿المصير﴾ أي : المرجع كما كان منه المبدأ فيجازي كلاً على فعله.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٣٩٠