﴿جنات عدن﴾ أي : إقامة بلا رحيل ؛ لأنه لا سبب للترحيل عنها وقوله تعالى ﴿يدخلونها﴾ أي : الثلاثة أصناف، خبر جنات عدن ومن دخلها لم يخرج منها ؛ لأنه لا شيء يخرجه ولا هو يريد الخروج منها، وقرأ أبو عمرو بضم الياء وفتح الخاء، والباقون بفتح الياء وضم الخاء.
ولما كان الداخل إلى مكان أول ما ينظر إلى ما فيه من النفائس قال تعالى ﴿يحلون فيها﴾ أي : يلبسون على سبيل التزين والتحلي ﴿من أساور﴾ أي : بعض أساور ﴿من ذهب﴾ فمن الأولى للتبعيض، والثانية للتبيين وقوله تعالى ﴿ولؤلؤ﴾ عطف على ذهب أي : من ذهب مرصع باللؤلؤ، أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ، وقرأ عاصم ونافع بالنصب عطفاً على محل من أساور، والباقون بالجر.
تنبيه : أساور جمع أسورة وهي جمع سوار، وذكر الأساور من بين سائر الحلي في مواضع كثيرة كقوله تعالى ﴿وحلوا أساور من فضة﴾ (الإنسان : ٢١)
يدل على كون المتحلي غير مبتذل في الأشغال ؛ لأن كثرة الأعمال باليد فإذا حليت بالأساور على الفراغ من الأعمال، ولما كانت هذه الزينة لا تليق إلا على اللباس الفاخر قال تعالى ﴿ولباسهم فيها حرير﴾.
﴿وقالوا﴾ أي : ويقولون عند دخولهم، وعبر عنه بالماضي تحقيقاً له ﴿الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن﴾ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : حزن النار، وقال قتادة : حزن الموت وقال مقاتل : لأنهم كانوا لا يدرون ما يصنع بهم، وقال عكرمة : حزن السيئات والذنوب وخوف رد الطاعات، وقال القاسم : حزن زوال النعم وخوف العاقبة، وقيل : حزن أهوال القيامة، وقال الكلبي : ما كان يحزنهم في الدنيا من أمر يوم القيامة، وقال سعيد بن جبير : الحزن في الدنيا، وقيل : همّ المعيشة، وقال الزجاج : أذهب الله تعالى عن أهل الجنة كل الأحزان ما كان منها لمعاش أو معاد أي : وهذا أولى الكل قال عليه الصلاة والسلام :"ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا في منشرهم، وكأني بأهل لا إله إلا الله ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون :"الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن".
ثم قالوا ﴿إن ربنا﴾ أي : المحسن إلينا مع إساءتنا ﴿لغفور﴾ أي : محّاء للذنوب عيناً وأثراً للصنفين الأولين ولغيرهما من المذنبين ﴿شكور﴾ للصنف الثالث ولغيره من المطيعين.
٤٠٣
تنبيه : ذكر الله تعالى عن هذه الثلاثة ثلاثة أمور كلها تفيد الكرامة، الأول : قولهم ﴿الحمد لله﴾ فإن الحامد يثاب. الثاني : قولهم ﴿ربنا﴾ فإن الله تعالى إذا نودي بهذا اللفظ استجاب للمنادي ما لم يكن يطلب ما لا يجوز. الثالث : قولهم ﴿غفور شكور﴾ والغفور إشارة إلى ما غفر لهم في الآخرة بحمدهم في الدنيا، والشكور إشارة إلى ما يعطيهم الله ويزيدهم بسبب حمدهم في الآخرة. وقولهم :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٠
الذي أحلنا دار المقامة﴾
أي : الإقامة إشارة إلى أن الدنيا منزلة ينزلها المكلف ويرتحل منها إلى منزلة القبور، ومن القبور إلى منزلة العرصة التي فيها الجمع ومنها التفريق إلى دار البقاء، إما إلى الجنة، وإما إلى النار أجارنا الله تعالى ومحبينا منها. وقولهم ﴿من فضله﴾ أي : بلا عمل منا فإن حسناتنا إنما كانت مناً منه تعالى إذ لا واجب عليه، متعلق بأحلنا، ومن إما للعلة، وإما لابتداء الغاية.
وقولهم ﴿لا يمسنا فيها﴾ أي : في وقت من الأوقات ﴿نصب ولا يمسنا فيها لغوب﴾ حال من مفعول أحلنا الأول أو الثاني، لأن الجملة مشتملة على ضمير كل منهما، وإن كان الحال من الأول أظهر، والنصب التعب والمشقة، واللغوب الفتور الناشئ عنه، وعلى هذا فيقال : إذا انتفى السبب انتفى المسبب، فإذا قيل : لم آكل فيعلم التغاء الشبع فلا حاجة إلى قوله ثانياً فلم أشبع بخلاف العكس، ألا ترى أنه يجوز لم أشبع ولم آكل والآية الكريمة على ما تقرر من نفي السبب ثم نفي المسبب فما فائدته ؟
أجيب : بأن النصب هو تعب البدن واللغوب هو تعب النفس، وقيل : اللغوب الوجع وحينئذ فالسؤال زائل، وأجاب الرازي بجواب قال ابن عادل : ليس بذاك فتركته.
ولما بين تعالى ما هم فيه من النعمة في دار السرور التي قال فيها القائل :
*علياء لا تنزل الأحزان ساحتها ** لو مسها حجر مسته سراء*
بين ما لأعدائهم من النقمة زيادة في سرورهم بما قاسوا في الدنيا من تكبرهم عليهم وفخارهم بقوله تعالى :
﴿والذين كفروا﴾ أي : ستروا ما دلت عليه عقولهم من شموس الآيات وأنوار الدلالات ﴿لهم نار جهنم﴾ أي : بما تجهموا أولياء الله الدعاة إليه ﴿لا يقضي﴾ أي : يحكم ﴿عليهم﴾ أي : بموت ثان ﴿فيموتوا﴾ أي : فيتسبب عن القضاء موتهم فيستريحوا كقوله تعالى ﴿ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك﴾ (الزخرف : ٧٧)
أي : بالموت
٤٠٤
فنستريح بل العذاب دائم.
تنبيه : نصب فيموتوا بإضمار أن.
ولما كانت الشدائد في الدنيا تنفرج وإن طال أمدها قال تعالى :﴿ولا يخفف عنهم﴾ وأعرق في النفي بقوله تعالى :﴿من عذابها﴾ أي : جهنم.


الصفحة التالية
Icon