من أحد يأتي بسنة غيرها تكون بدلاً لها ؛ لأنه تعالى لا مكافئ له ﴿ولن تجد لسنت الله﴾ أي : الذي لا أمر لأحد معه ﴿تحويلا﴾ أي : من حالة إلى أخف منها ؛ لأنه لا مرد لقضائه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦
فائدة : ترسم سنت لسنت الثلاثة بالتاء المجرورة كما رأيت، ووقف أبو عمرو وابن كثير والكسائي بالهاء، والباقون بالتاء، وإذا وقف الكسائي أمال الهاء على أصله.
ولما ذكر الله تعالى الأولين وسنتهم في إهلاكهم نبههم بتذكير حال الأولين بقوله تعالى :
﴿أولم يسيروا﴾ أي : فيما مضى من الزمان ﴿في الأرض﴾ أي : التي ضربوا في المتاجر بالسير إليها في الشام واليمن والعراق ﴿فينظروا﴾ أي : فيتسبب عن ذلك السير أنه يتجدد لهم نظر واعتبار يوماً من الأيام، فإن العاقل من إذا رأى شيئاً تفكر فيه حتى يعرف ما ينطق به لسان حاله إن خفي عليه ما جرى من مقاله، وأشار بسوقه في أسلوب الاستفهام إلى أنه لعظمه خرج عن أمثاله فاستحق السؤال عن حاله ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي : آخر أمر ﴿الذين من قبلهم﴾ أي : على أي حالة كان آخر أمرهم ليعلموا أنهم ما أخذوا إلا بتكذيب الرسل عليهم السلام فيخافوا أن يفعلوا مثل أفعالهم فيكون حالهم كحالهم فإنهم كانوا يمرون على ديارهم ويرون آثارهم، وأملهم كان فوق أملهم وعملهم كان دون عملهم، وكانوا أطول منهم أعماراً وأشد اقتداراً ومع هذا لم يكذبوا مثل محمد صلى الله عليه وسلم
وأنتم يا أهل مكة كفرتم بمحمد ومن قبله عليهم السلام ﴿وكانوا﴾ أي : أهلكناهم لتكذيبهم رسلنا، والحال أنهم كانوا ﴿أشد منهم﴾ أي : من هؤلاء ﴿قوة وما كان الله﴾ أي : الذي له جميع العظمة وأكد الاستغراق في النفي بقوله تعالى :﴿ليعجزه﴾ أي : مريداً لأن يعجزه، ولما انتفت إرادة العجز فيه انتفى العجز بطريق الأولى، وأبلغ في التأكيد بقوله تعالى :﴿من شيء﴾ أي : قل أو جل وعم بما يصل إليه إدراكنا بقوله تعالى :﴿في السموات﴾ أي : جهة العلو، وأكد بقوله عز وجل ﴿ولا في الأرض﴾ أي : جهة السفل ﴿أنه كان﴾ أي : أزلاً وأبداً ﴿عليماً﴾ أي : بالأشياء كلها حقيرها وجليلها ﴿قديراً﴾ أي : كامل القدرة أي : فلا يريد شيئاً إلا كان ولما كانوا يستعجلون بالتوعد استهزاء، كقولهم :﴿اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم﴾ (الأنفال : ٣٢)
على أن التقدير ولو عاملكم الله تعالى معاملة المؤاخذ لعجل إهلاككم عطف عليه قوله تعالى إظهاراً للحكم مع العلم
﴿ولو يؤاخذ الله﴾ أي : بما له من صفات العلو ﴿الناس﴾ أي : المكلفين ﴿بما كسبوا﴾ أي : من المعاصي ﴿ما ترك على ظهرها﴾ أي : الأرض ﴿من دابة﴾ أي : نسمة تدب عليها كما كان في زمن نوح عليه السلام أهلك الله تعالى ما على ظهر الأرض إلا من كان في السفينة مع نوح.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦
فإن قيل : إذا كان الله تعالى يؤاخذ الناس بما كسبوا فما بال الدواب ؟
أجيب : بأن المطر إنعام من الله في حق العباد، وإذا لم يستحقوا الإنعام قطعت الأمطار عنهم فيظهر الجفاف على وجه الأرض فيموت جميع الحيوانات، وبأن خلقة الحيوانات نعمة والمعاصي تزيل النعم وتحل النقم والدواب أقرب النعم ؛ لأن المفرد أولاً ثم المركب، والمركب إما أن يكون معدناً وإما أن يكون نامياً، والنامي إما أن يكون حيواناً أو نباتاً، والحيوان إما إنسان أو غير إنسان فالدواب أعلى درجات المخلوقات في عالم العناصر للإنسان.
فإن قيل : كيف يقال لما علته الخلق من الأرض وجه الأرض وظهر الأرض مع أن الظهر مقابله الوجه فهو كالمتضاد ؟
أجيب : بأن الأرض كالدابة الحاملة للأثقال والحمل يكون على
٤٠٩
الظهر، وأما وجه الأرض فلأن الظاهر من باب والبطن والباطن من باب فوجه الأرض ظهر ؛ لأنه هو الظاهر وغيره منها باطن وبطن.
﴿ولكن﴾ لم يعاملهم معاملة المؤاخذ المناقش بل يحلم عنهم فهو ﴿يؤخرهم﴾ أي : في الحياة الدنيا ثم في البرزخ ﴿إلى أجل مسمى﴾ أي : سماه في الأزل لانقضاء أعمارهم ثم يبعثهم من قبورهم وهو تعالى لا يبدل القول لديه لما له من صفات الكمال ﴿فإذا جاء أجلهم﴾ أي : الفناء الإعدامي قبض كل واحد منهم عند أجله، أو الإيجاد الإبقائي بعث كلاً منهم فجازاه بعمله ﴿فإن الله﴾ أي : الذي له الصفات العليا ﴿كان﴾ ولم يزل ﴿بعباده﴾ الذين أوجدهم ولا شريك له في إيجاد واحد منهم بجميع ذواتهم وأحوالهم ﴿بصيراً﴾ أي : بالغ البصر والعلم بمن يستحق العذاب ومن يستحق الثواب، قال ابن عباس : يريد أهل طاعته وأهل معصيته، وما رواه البيضاوي تبعاً للزمخشري من أنه ﷺ قال :"من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثمانية أبواب الجنة أن ادخل من أي الأبواب شئت" حديث موضوع.
٤١٠
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٠٦