والقرآن} قالون وابن كثير وأبو عمرو وحفص وحمزة، وأدغم الباقون، وهي واو القسم أو العطف إن جعل يس مقسماً به، ثم وصف القرآن بقوله تعالى :﴿الحكيم﴾ أي : المحكم بعظيم النظم وبديع المعاني، وقوله تعالى :
﴿إنك لمن المرسلين﴾ أي : الذين حكمت عقولهم على دواعي نفوسهم فصاروا بما وهبهم الله من القوة النورانية وبما تخلقوا به من أوامره ونواهيه كالملائكة الذين تقدم ذكرهم في السورة الماضية إنهم رسله جواب القسم وهو رد على الكفار حيث قالوا : لست مرسلاً، فإن قيل : المطلب يثبت بالدليل لا بالقسم فما الحكمة بالإقسام ؟
أجيب : بأوجه : أولها : أن العرب كانوا يتقون الأيمان الفاجرة، وكانوا يقولون إن الأيمان الفاجرة توجب خراب العالم، وصحح النبي ﷺ ذلك بقوله :"اليمين الكاذبة تدع الديار بلاقع" ثم إنهم كانوا يقولون : إن النبي ﷺ يصيبه من آلهتهم وهي الكواكب عذاب، والنبي ﷺ يحلف بأمر الله وإنزال كلامه عليه بأشياء مختلفة، وما كان يصيبه عذاب بل كان كل يوم أرفع شأناً وأمنع مكاناً فكان ذلك يوجب اعتقاد أنه ليس بكاذب.
ثانيها : أن المناظرين إذا وقع بينهما كلام وغلب أحدهما الآخر بتمشية دليله وأسكته يقول المغلوب : إنك قررت هذا بقوة جدالك وأنت خبير في نفسك بضعف مقالتك، وتعلم أن الأمر ليس كما تقول وإن أقمت عليه الدليل صورة وعجزت أنا على القدح فيه، وهذا كثير الوقوع بين المتناظرين فعند هذا لا يجوز أن يأتي هو بدليل آخر ؛ لأن الساكت المنقطع يقول في الدليل الآخر ما قاله في الأول فلا يجد أمراً إلا اليمين، فكذلك النبي ﷺ أقام البراهين وقالت الكفرة ﴿ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم عما كان يعبد أباؤكم﴾ (سبأ : ٤٣)
﴿وقالوا ما هذا إلا أفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا إلا سحر مبين﴾ (سبأ : ٤٣)
فالتمسك بالأيمان لعدم فائدة الدليل.
ثالثها : أن هذا ليس بمجرد الحلف بل دليل خرج في صورة اليمين ؛ لأن القرآن معجزة، ودليل كونه مرسلاً هو المعجزة والقرآن كذلك، فإن قيل : لِمَ لم يذكر في صورة الدليل وما الحكمة في ذكر الدليل في صورة اليمين ؟
أجيب : بأن الدليل إذا ذكر في صورة اليمين، واليمين لا يقع ولاسيما من العظيم الأعلى أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه فلصورة اليمين يقبل عليه السامع لكونه دليلاً شافياً يسر به الفؤاد فيقع في السمع وفي القلب وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١١
على صراط﴾ أي : طريق واسع واضح ﴿مستقيم﴾ أي : هو التوحيد والاستقامة في الأمر، يجوز أن يكون متعلقاً بالمرسلين تقول : أرسلت عليه كذا قال تعالى ﴿وأرسل
٤١٣
عليهم طيراً أبابيل﴾ (الفيل : ٣)
وأن يكون متعلقاً بمحذوف على أنه حال من الضمير المستكن في ﴿لمن المرسلين﴾ لوقوعه خبراً، وأن يكون حالاً من المرسلين، وأن يكون خبراً ثانياً لإنك.
وقرأ قنبل "سراط" بالسين عوضاً عن الصاد، وخلف بالإشمام وهو بين الصاد والزاي، والباقون بالصاد الخالصة.
ولما كان كأنه قيل : ما هذا الذي أرسل به ؟
كان كأنه قيل جواباً : هو القرآن الذي وقع الإقسام به وهو :
﴿تنزيل﴾ أو حال كونه تنزيل ﴿العزيز﴾ أي : المتصف بجميع صفات الجلال ﴿الرحيم﴾ أي : الحاوي لجميع صفات الإكرام الذي ينعم على من يشاء من عباده بعد الإنعام بإيجادهم فهو الواحد المنفرد في ملكه، وقرأ ابن عامر وحفص وحمزة والكسائي تنزيل بالنصب على الحال كما مر، أو بإضمار أعني، والباقون بالرفع على أنه خبر مبتدأ مضمر كما مر.
ولما ذكر تعالى المرسل وهو الله تعالى، والمرسل وهو النبي ﷺ والمرسل به وهو القرآن ذكر المرسل لهم بقوله تعالى :
﴿لتنذر قوماً﴾ أي : ذوي بأس وقوة وذكاء وفطنة ﴿ما أنذر﴾ أي : لم تنذر أصلاً ﴿آباؤهم﴾ أي : لم ينذروا في زمن الفترة ﴿فهم﴾ أي : بسبب زمان الفترة ﴿غافلون﴾ أي : عن الإيمان والرشد وقوله تعالى :
﴿لقد حق القول على أكثرهم﴾ فيه وجوه : أشهرها : أن المراد بالقول هو قوله تعالى :﴿لقد حق القول مني لأملأن جهنم منك وممن تبعك منهم أجمعين﴾ ثانيها : أن معناه لقد سبق في علمه تعالى أن هذا يؤمن وهذا لا يؤمن فحق القول أي : وجب وثبت بحيث لا يبدل بغيره كما قال تعالى ﴿ما يبدل القول لدى﴾ (ق : ٢٩)
ثالثها : المراد لقد حق القول الذي قاله الله تعالى على لسان الرسل من التوحيد وغيره ﴿فهم﴾ أي : بسبب ذلك ﴿لا يؤمنون﴾ أي : بما يلقى إليهم من الإنذار بل يزيدهم عمى استكباراً في الأرض ومكر السيء.
ونزل في أبي جهل وصاحبه :