وهذا قال :﴿اتبعوا المرسلين﴾ ؟
أجيب : بأن هذا الرجل جاءهم وفي أول مجيئه نصحهم ولم يعلموا سيرته فقال : اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لكم السبيل، وأما مؤمن آل فرعون فكان فيهم ونصحهم مراراً فقال : اتبعوني في الإيمان بموسى وهرون عليهما السلام، واعلموا أنه لو لم يكن خيراً لما اخترته لنفسي وأنتم تعلمون أني اخترته ولم يكن الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يعلمون اتباعه لهم.
ولما قال لهم : اتبعوا المرسلين كأنهم منعوا كونهم مرسلين فنزل درجة وقال :
﴿اتبعوا من لا يسألكم أجراً﴾ أي : أجرة ؛ لأن الخلق في الدنيا سالكون طريق الاستقامة، والطريق إذا كان فيه دليل وجب اتباعه وعدم الاستماع من الدليل لا يحسن إلا عند أحد أمرين : إما لطلب الدليل الأجرة، وإما : لعدم الاعتماد على اهتدائه ومعرفة الطريق لكن هؤلاء لا يطلبون أجرة ﴿وهم مهتدون﴾ عالمون بالطريق المستقيم الموصلة إلى الحق فهب أنهم ليسوا بمرسلين أليسوا بمهتدين ؟
فاتبعوهم وقوله تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾
أصله : وما لكم لا تعبدون ولكنه صرف الكلام عنه ليكون الكلام أسرع قبولاً حيث أراد لهم ما أراد لنفسه والمراد : تقريعهم على تركهم عبادة خالقهم إلى عبادة غيره ولذلك قال ﴿وإليه ترجعون﴾ دون وإليه أرجع مبالغة في التهديد وفي العدول عن مخاصمة القوم إلى حال نفسه مبالغة في الحكمة، وهي أنه لو قال : ما لكم لا تعبدون الذي فطركم لم يكن في البيان مثل قوله : ما لي ؛ لأنه لما قال : مالي فأحد لا يخفى عليه حال نفسه، علم كل واحد أنه لا يطلب العلة وبيانها من أحد ؛ لأنه أعلم بحال نفسه وقوله ﴿الذي فطرني﴾ أشار به إلى وجود المقتضى فإن قوله :﴿مالي﴾ إشارة إلى عدم المانع وعند عدم المانع لا يوجد الفعل ما لم يوجد المقتضى فقوله ﴿الذي فطرني﴾ دليل المقتضي فإن الخالق ابتداء مالك والمالك يجب على المملوك إكرامه وتعظيمه ومنعم بالإيمان، والمنعم يجب على المنعم عليه شكر نعمته، وقدم بيان عدم المانع على بيان وجود المقتضي مع أن المستحسن تقديم المقتضي، لأن المقتضي لظهوره كان مستغنياً عن البيان فلا أقل من تقديم ما هو أولى بالبيان للحاجة إليه، واختار من الآيات فطرة نفسه ؛ لأن خالق عمرو يجب على زيد عبادته ؛ لأن من خلق عمراً لا يكون إلا كامل القدرة واجب الوجود فهو مستحق للعبادة بالنسبة إلى كل مكلف، لكن العبادة على زيد بخلق زيد أظهر إيجاباً.
تنبيه : أضاف الفطرة إلى نفسه والرجوع إليهم ؛ لأن الفطرة أثر النعمة فكانت عليه أظهر، وفي الرجوع معنى الزجر فكان بهم أليق، روي أنه لما قال ﴿اتبعوا المرسلين﴾ أخذوه ورفعوه إلى الملك فقال له : أفأنت تتبعهم ؟
فقال ﴿ومالي لا أعبد الذي فطرني﴾ أي : أي : شيء يمنعني أن أعبد خالقي وإليه ترجعون، تردون عند البعث فيجزيكم بأعمالكم ومعنى فطرني : خلقني اختراعاً ابتداء، وقيل : خلقني على الفطرة كما قال تعالى ﴿فطرة الله التي فطر الناس عليها﴾ (الروم : ٣٠)
٤٢١
ثم عاد إلى السياق الأول فقال :
﴿أأتخذ﴾ وهو استفهام بمعنى الإنكار أي : لا أتخذ وبين علو رتبته تعالى بقوله ﴿من دونه﴾ أي : سواه مع دنو المنزلة وبين عجز ما عبدوه بتعدده فقال ﴿آلهة﴾ وفي ذلك لطيفة وهي : أنه لما بين أنه يعبد الذي فطره بين أن من دونه لا تجوز عبادته ؛ لأن الكل محتاج مفتقر حادث وقوله ﴿أأتخذ﴾ إشارة إلى أن غيره ليس بإله ؛ لأن المتخذ لا يكون إلهاً، وقرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو وهشام بتسهيل الثانية بخلاف عن هشام، وأدخل فيهما ألفاً قالون وأبو عمرو وهشام وورش وابن كثير بغير إدخال ألف، والباقون بتحقيقهما مع عدم الإدخال وإذا وقف حمزة فله تسهيل الثانية والتحقيق ؛ لأنه متوسط بزائد وله أيضاً إبدالها ألفاً.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤١٧
ثم بين عجز تلك الآلهة بقوله ﴿إن يردن الرحمن﴾ أي : العام النعمة على كل المخلوقين العابد والمعبود ﴿بضر﴾ أي : سوء ومكروه ﴿لا تغن عني شفاعتهم شيئاً﴾ أي : لو فرض أنهم شفعوا ولكن شفاعتهم لا توجد ﴿ولا ينقذون﴾ أي : بالنصر والمظاهرة من ذلك المكروه أو من العذاب لو عذبني الله تعالى إن فعلت ذلك.
فإن قيل : ما الحكمة في قوله تعالى هنا :﴿إن يردن الرحمن﴾ بصيغة المضارع وقال في الزمر :﴿إن أرادني الله﴾ (الزمر : ٣٨)
بصيغة الماضي وذكر المريد هنا باسم الرحمن وذكر المريد هناك باسم الله ؟
أجيب : بأن الماضي والمستقبل مع الشرط يصير الماضي مستقبلاً ؛ لأن المذكور هنا من قبل بصيغة الاستقبال في قوله ﴿أأتخذ﴾ وقوله ﴿مالي لا أعبد﴾ والمذكور هناك من قبل بصيغة الماضي في قوله ﴿أفرأيتم﴾ (الزمر : ٣٨)
تنبيه : إن يردن شرط جوابه لا تغن عني إلخ والجملة الشرطية في محل النصب صفة لآلهة.
فائدة : أثبت ورش الياء بعد النون في الوصل دون الوقف، والباقون بغير ياء وقفاً ووصلاً.


الصفحة التالية
Icon