وقال أهل المعاني : إن الكفار إذا عاينوا جهنم وأنواع عذابها دعوا بالويل وصار عذاب القبر في جنبها كالنوم فعدوا مكانهم الذي كانوا فيه مع ما كانوا فيه من عذاب البرزخ مرقداً هيناً بالنسبة إلى ما انكشف لهم من العذاب الأكبر فقالوا : من بعثنا من مرقدنا، فإن قيل : ما وجه تعلق من بعثنا من مرقدنا بقولهم يا ويلنا ؟
أجيب : بأنهم لما بعثوا تذكروا ما كانوا يسمعون من الرسل عليهم الصلاة والسلام فقالوا : يا ويلنا أبعثنا الله البعث الموعود به أم كنا نياماً فنبهنا ؟
كما إذا كان الإنسان موعوداً بأن يأتيه عدو لا يطيقه، ثم يرى رجلاً هائلاً يقبل عليه فيرتجف في نفسه ويقول : أهذا ذاك أم لا ؟
ويدل على هذا قولهم ﴿من مرقدنا﴾ حيث جعلوا القبور موضع الرقاد إشارة إلى أنهم شكوا في أنهم كانوا نياماً فتنبهوا أو كانوا موتى فبعثوا، وكان الغالب على ظنهم هو البعث فجمعوا بين الأمرين وقالوا من مرقدنا إشارة إلى متوهمهم احتمال الانتباه.
وقولهم ﴿هذا﴾ إشارة إلى البعث ﴿ما﴾ أي : الذي ﴿وعد﴾ أي : به ﴿الرحمن﴾ أي : العام الرحمة الذي رحمته مقتضية ولا بد للبعث لينصف المظلوم من ظالمه ويجازي كلاً بعمله من غير حيف وقد رحمنا بإرسال الرسل عليهم الصلاة والسلام إلينا بذلك وطالما أنذرونا حلوله وحذرونا
٤٣٣
صعوبته وطوله ﴿وصدق﴾ أي : في أمره ﴿المرسلون﴾ أي : الذين أتونا بوعد الله تعالى ووعيده.
تنبيه : في إعراب هذا وجهان : أظهرهما : أنه مبتدأ وما بعده خبره ويكون الوقف تاماً على قوله تعالى ﴿من مرقدنا﴾ وهذه الجملة حينئذ فيها وجهان : أحدهما : أنها مستأنفة إما من قول الله تعالى أو من قول الملائكة أو من قول المؤمنين، الثاني : أنها من كلام الكفار فتكون في محل نصب بالقول الثاني من الوجهين الأولين هذا صفة لمرقدنا وما وعد منقطع عما قبله، ثم في (ما) وجهان أحدهما : أنها في محل رفع بالابتداء والخبر مقدر أي : الذي وعده الرحمن وصدق المرسلون فيه حق عليكم وإليه ذهب الزجَّاج والزمخشري، والثاني : أنه خبر مبتدأ مضمر أي : في هذا الذي وعد الرحمن.
﴿إن﴾ أي : ما ﴿كانت﴾ أي : النفخة التي وقع الإحياء بها ﴿إلا صيحة واحدة﴾ أي : كما كانت صيحة الإماتة واحدة ﴿فإذا هم﴾ أي : فجأة من غير توقف أصلاً ﴿جميع﴾ أي : على حالة الاجتماع لم يتأخر منهم أحد ﴿لدينا﴾ أي : عندنا ﴿محضرون﴾ ثم بين تعالى ما يكون في ذلك اليوم بقوله تعالى :
﴿فاليوم لا تظلم نفس﴾ أي : أي نفس كانت مكروهة أو محبوبة ﴿شيئاً﴾ أي : لا يقع لها ظلم ما من أحد ما في شيء ما ﴿ولا تجزون﴾ أي : على عمل من الأعمال شيئاً من الجزاء من أحد ﴿إلا ما كنتم تعملون﴾ ديدناً لكم بما ركز في جبلاتكم ثم بين تعالى حال المحسن بقوله تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٢٩
﴿إن أصحاب الجنة﴾ أي : الذين لا حظ للنار فيهم ﴿اليوم﴾ أي : يوم البعث وهذا يدل على أنه يعجل دخولهم ودخول بعضهم إليها ووقوف الباقين للشفاعات ونحوها من الكرامات عند دخول أهل النار النار، وعبر بما يدل على أنهم بكلياتهم مقبلون عليه ومطرقون له مع توجههم إليه بقوله ﴿في شغل﴾ أي : عظيم جداً لا تبلغ وصفه العقول كما كانوا في الدنيا في أشغل الشغل بالمجاهدات في الطاعات.
وقرأ ابن عامر والكوفيون بضم العين، والباقون بالإسكان ثم بين ذلك الشغل بقوله ﴿فاكهون﴾ أي : متلذذون في النعمة، واختلف في هذا الشغل فقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما : في افتضاض الإبكار، وقال وكيع بن الجراح رضي الله عنهما : في السماع، وقال الكلبي : في شغل عن أهل النار وما هم فيه لا يهمهم أمرهم ولا يذكرونهم، وقال ابن كيسان : في زيارة
٤٣٤
بعضهم بعضاً، وقيل : في ضيافة الله تعالى فاكهون، وقيل : في شغل عن هول اليوم يأخذون ما آتاهم الله تعالى من الثواب فما عندهم خبر من عذاب ولا حساب.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٣٤
وقوله تعالى ﴿فاكهون﴾ متمم لبيان سلامتهم فإنه لو قال : في شغل جاز أن يقال : هم في شغل أعظم من التفكر في اليوم وأهواله فإن من تصيبه فتنة عظيمة ثم يعرض عليه أمر من أموره أو يخبر بخسران وقع في ماله يقول : أنا مشغول عن هذا بأهم منه فقال : فاكهون أي : شغلوا عنه باللذة والسرور لا بالويل والثبور، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : فاكهون : فرحون.
ولما كانت النفس لا يتم سرورها إلا بالقرين الملائم قال تعالى :
﴿هم﴾ أي : بظواهرهم وبواطنهم ﴿وأزواجهم﴾ أي : أشكالهم الذين لهم في غاية الملاءمة كما كانوا يتركونهم في المضاجع على ألذ ما يكون ويصفون أقدامهم في خدمتنا وهم يبكون من خشيتنا، وفي هذا إشارة إلى عدم الوحشة ﴿في ظلال﴾ أي : يجدون فيها برد الأكباد وغاية المراد فلا تصيبهم الشمس كما كانوا يشوون أكبادهم في دار العمل بحر الصيام والصبر في مرضاتنا على الآلام ويعرون أيديهم وقلوبهم من الأموال ببذل الصدقات في سبيلنا على ممر الليالي وكر الأيام.


الصفحة التالية
Icon