﴿أو لم يروا﴾ أي : يعلموا علماً هو كالرؤية، والاستفهام للتقرير والواو الداخلة عليها للعطف ﴿أنا خلقنا لهم﴾ أي : في جملة الناس ﴿مما عملت أيدينا﴾ أي : مما تولينا إحداثه ولم يقدر على إحداثه غيرنا، وذكر الأيدي وإسناد العمل إليها استعارة تفيد المبالغة في الاختصاص والتفرد في الإحداث، كما يقول القائل : عملت هذا بيدي إذا تفرد به ولم يشاركه فيه أحد ﴿أنعاماً﴾ على علم منا بقواها ومقاديرها ومنافعها وطبائعها وغير ذلك من أمورها، وإنما خص الأنعام بالذكر وإن كانت الأشياء كلها من خلقه وإيجاده، لأن الأنعام أكثر أموال العرب والنفع بها أعم ﴿فهم لها مالكون﴾ أي : خلقناها لأجلهم فملكناهم إياها يتصرفون فيها تصرف الملاك أو فهم لها ضابطون قاهرون ومنه قول بعضهم :
*أصبحت لا أملك السلاح ولا ** أملك رأس البعير إن نفرا*
*والذئب أخشاه إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا*
والشاهد في قوله : ولا أملك رأس البعير أي : لا أضبطه والمعنى : لم نخلق الأنعام وحشية نافرة من بني آدم لا يقدرون على ضبطها بل خلقناها مذللة كما قال تعالى :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٣
وذللناها لهم﴾ أي : يسرنا قيادها ولو شئنا جعلناها وحشية كما جعلنا أصغر منها وأضعف، فمن قدر على تذليل الأشياء
٤٤٣
الصعبة جداً لغيره قادر على تطويع الأشياء لنفسه ثم سبب عن ذلك قوله تعالى ﴿فمنها ركوبهم﴾ أي : ما يركبون وهي الإبل ؛ لأنها أعظم مركوباتهم لعموم منافعها في ذلك وكثرتها ﴿ومنها يأكلون﴾ أي : ما يأكلون لحمه.
ولما أشار إلى عظمة نفع الركوب والأكل بتقديم الجار وكانت منافعها لغير ذلك كثيرة قال تعالى :
﴿ولهم فيها منافع﴾ أي : من أصوافها وأوبارها وأشعارها وجلودها ونسلها وغير ذلك ﴿ومشارب﴾ أي : من ألبانها جمع مشرب بالفتح، وخص الشرب من عموم المنافع بعموم نفعه وجمعه لاختلاف طعوم ألبان الأنواع الثلاثة، ولما كانت هذه الأشياء من العظمة بمكان لو فقدها الإنسان لتكدرت معيشته تسبب عنها استئناف الإنكار عليهم في تخلفهم عن طاعته بقوله تعالى :﴿أفلا يشكرون﴾ أي : المنعم عليهم بها فيؤمنون. ولما ذكرهم تعالى نعمه وحذرهم نقمه عجب منهم في سفول نظرهم وقبح أثرهم بقوله تعالى موبخاً لهم :
﴿واتخذوا من دون﴾ أي : غير ﴿الله﴾ الذي له جميع صفات الكمال والعظمة ﴿آلهة﴾ أي : أصناماً يعبدونها بعدما رأوا منه تعالى تلك القدرة الباهرة والنعم المتظاهرة وعلموا أنه المنفرد بها ﴿لعلهم ينصرون﴾ أي : رجاء أن ينصروهم فيما أحزنهم من الأمور والأمر بالعكس كما قال تعالى :
﴿لا يستطيعون﴾ أي : الآلهة المتخذة ﴿نصرهم﴾ أي : العابدين ﴿وهم﴾ أي : العابدون ﴿لهم﴾ أي : للآلهة ﴿جند محضرون﴾ أي : الكفار جند الأصنام فيغضبون لها ويحضرونها في الدنيا وهي لا تسوق لهم خيراً ولا تستطيع لهم نصراً، وقيل : هذا في الآخرة يؤتى بكل معبود من دون الله تعالى ومعه أتباعه الذين عبدوه كأنهم جنده يحضرون في النار وهذا كقوله تعالى :﴿إنكم وما تعبدون من دون الله حصب جهنم﴾ (الأنبياء : ٩٨)
وقوله تعالى :﴿احشروا الذين ظلموا وأزواجهم وما كانوا يعبدون من دون الله فاهدوهم إلى صراط الجحيم﴾ (الصافات : ٢٢ ـ ٢٣)
ولما بين تعالى ما تبين من قدرته الظاهرة الباهرة ووهن أمرهم في الدنيا والآخرة ذكر ما يسلى نبيه ﷺ بقوله تعالى :
﴿فلا يحزنك قولهم﴾ أي : في تكذيبك كقولهم :﴿لست مرسلاً﴾ (الرعد : ٤٣)
﴿إنا نعلم ما﴾ أي كل ما ﴿يسرون﴾ أي : في ضمائرهم من التكذيب وغيره ﴿وما يعلنون﴾ أي : يظهرونه بألسنتهم من الأذى وغيره من عبادة الأصنام فنجازيهم عليه.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٤٣
ولما ذكر تعالى دليلاً على عظم قدرته ووجوب عبادته بقوله تعالى :﴿أو لم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاماً﴾ ذكر دليلاً من الأنفس أبين من الأول بقوله تعالى :
﴿أولم ير﴾ أي : يعلم ﴿الإنسان﴾ علماً هو في ظهوره كالمحسوس بالبصر ﴿أنا خلقناه﴾ أي : بما لنا من العظمة ﴿من نطفة﴾ أي : شيء حقير يسير من ماء لا انتفاع به بعد إبداعنا إياه من تراب وأنه من لحم وعظام ﴿فإذا هو﴾ أي : فتسبب عن خلقنا له من ذلك المفاجأة لحالة هي أبعد شيء من حالة النطفة وهي أنه ﴿خصيم﴾ أي : بليغ الخصومة ﴿مبين﴾ أي : في غاية البيان عما يريده حتى إنه ليجادل من أعطاه العقل والقدرة في قدرته وأنشد الأستاذ القشيري في ذلك :
٤٤٤
*أعلمه الرماية كل يوم ** فلما اشتد ساعده رماني*
*وكم علمته علم القوافي ** فلما قال قافية هجاني*
وفي هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر وفيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث تعجب منه وجعله إفراطاً في الخصومة بيناً ومنافاته لجحود القدرة على ما هو أهون مما علمه في بدء خلقه ومقابلة النعمة التي لا مزيد عليها وهي خلقه من أخس شيء وأمهنه شريفاً مكرماً بالعقوق والتكذيب.