تنبيه : كم مفعول أهلكنا، ومن قرن تمييز، ومن قبلهم لابتداء الغاية ﴿فنادوا﴾ أي : استغاثوا عند نزول العذاب وحلول النقمة وقيل : نادوا بالإيمان والتوبة ﴿ولات﴾ أي : وليس الحين ﴿حين مناص﴾ أي : منجى وفرار، قال ابن عباس : كان كفار مكة إذا قاتلوا فاضطروا في الحرب، قال بعضهم لبعض : مناص أي : اهربوا وخذوا حذركم، فلما نزل بهم العذاب ببدر قالوا : مناص، فأنزل الله تعالى ذلك، والمناص مصدر ناص ينوص إذا تقدم، ولات بمعنى : ليس بلغة أهل اليمن، وقال النحويون : هي لا زيدت فيها التاء كقولهم : رب وربت، وثم وثمت، وأصلها هاء وصلت بلا فقالوا : لات كما قالوا : ثمت ولا تعمل إلا في الأزمان خاصة نحو لات حين ولات أوان كقول الشاعر :
*طلبوا صلحنا ولات أوان ** فأجبنا أن ليس حين بقاء*
والأكثر حينئذ حذف مرفوعها فتقديره ولات الحين حين مناص، وقد يحذف المنصوب ويبقى المرفوع كقول القائل :
*من صد عن نيرانها ** فأنا ابن قيس لا براح*
أي : لا براح لي، ولما حكى تعالى عن الكفار كونهم في عزة وشقاق أتبعه بشرح كلماتهم الفاسدة بقوله تعالى :
﴿وعجبوا﴾ أي : الكفار الذين ذكرهم الله تعالى في قوله سبحانه :﴿بل الذين كفروا في عزة وشقاق﴾ ﴿أن﴾ أي : لأجل أن ﴿جاءهم منذر﴾ هو النبي ﷺ وفي قوله تعالى :﴿منهم﴾ وجهان أحدهما : أنهم قالوا أن محمداً مساو لنا في الخلقة الظاهرة والأخلاق الباطنية
٤٨٥
والنسب والشكل والصورة فكيف يعقل أن يختص من بيننا بهذا المنصب العالي. والثاني : أن الغرض من هذه الكلمة التنبيه على كمال جهلهم لأنهم جاءهم رجل يدعوهم إلى التوحيد والترغيب في الآخرة ثم إن هذا الرجل من أقاربهم يعلمون أنه كان بعيداً عن الكذب والتهمة وكل ذلك مما يوجب الاعتراف بتصديقه ثم إنهم لحماقتهم يتعجبون من قوله :﴿وقال الكافرون﴾ وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشارة إلى أنهم يسترون الحق مع معرفتهم إياه فهم جاحدون لا جاهلون ومعاندون لا غافلون وإيذاناً بشدة غضبه عليهم وذماً لهم على قولهم :﴿هذا﴾ أي : النذير ﴿ساحر﴾ أي : فيما يظهره معجزة ﴿كذاب﴾ أي : فيما يقول على الله تبارك وتعالى :
﴿أجعل﴾ أي : صير بسبب ما يزعم أنه يوحى إليه ﴿الآلهة﴾ أي : التي نعبدها ﴿إلهاً واحداً﴾ كيف يسع الخلق كلهم إله واحد ﴿إن هذا﴾ أي : القول بالوحدانية ﴿لشيء عجاب﴾ أي : بليغ في العجب فإنه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا ونشاهده من أن الواحد لا يفي عمله وقدرته بالأشياء الكثيرة، وقال البغوي : العجب والعجاب واحد كقولهم : رجل كريم وكرام، وكبير وكبار، وطويل وطوال، وعريض وعراض، وسبب قولهم ذلك أنه روى أنه لما أسلم عمر رضي الله عنه شق ذلك على قريش وفرح به المؤمنون فقال الوليد بن المغيرة للملأ من قريش : ـ وهم الصناديد والأشراف وكانوا خمسة وعشرين رجلاً أكبرهم سناً الوليد بن المغيرة ـ اذهبوا إلى أبي طالب، فأتوا إليه وقالوا له : أنت شيخنا وكبيرنا وقد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء وإنا جئناك لتقضي بيننا وبين ابن أخيك، فأرسل أبو طالب إليه فحضر فقال له : يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك السواء فلا تمل كل الميل على قومك، فقال رسول الله ﷺ ماذا تسألونني ؟
فقالوا : ارفضنا وارفض ذكر آلهتنا، قال : أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم أتعطوني أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب وتدين لكم بها العجم ؟
فقال أبو جهل : لله أبوك نعطيكها وعشر أمثالها، فقال رسول الله ﷺ "قولوا لا إله إلا الله فنفروا من ذلك وقاموا" فقالوا ذلك.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٤
وانطلق الملأ منهم﴾ أي : أشراف قريش من مجلس اجتماعهم عند أبي طالب وسماعهم من النبي ﷺ قولوا لا إله إلا الله ﴿أن امشوا﴾ أي : يقول بعضهم لبعض امشوا أي : اذهبوا ﴿واصبروا﴾ أي : اثبتوا ﴿على آلهتكم﴾ أي : على عبادتها، قال الزمخشري : ويجوز أنهم قالوا : امشوا أي : أكثروا واجتمعوا، من مشت المرأة إذا كثرت ولادتها، ومنه الماشية للتفاؤل.
فائدة : الجميع يكسرون النون في الوصل من أن امشوا والهمزة في الابتداء من امشوا.
ولما أسلم عمر وحصل للمسلمين قوة بمكانه قال المشركون ﴿إن هذا﴾ أي : الذي نراه من زيادة أصحاب محمد ﷺ ﴿لشيء يراد﴾ أي : بنا فلا مرد له أو أن الصبر على عبادة الآلهة لشيء يراد وهو أهل للإرادة فهو أهل أن لا ننفك عنه، وقيل : هذا المذكور من التوحيد لشيء يراد منا وقيل : إن دينكم لشيء يطلب ليؤخذ منكم.
﴿ما سمعنا بهذا﴾ أي : الذي يقوله محمد من التوحيد ﴿في الملة الآخرة﴾ قال ابن عباس : يعنون في النصرانية لأنها آخر الملل وهم لا يوحدون بل يقولون : ثالث ثلاثة، وقال مجاهد : يعنون ملة قريش دينهم الذي هم عليه ﴿إن﴾ أي : ما ﴿هذا﴾ أي : الذي يقوله ﴿إلا اختلاق﴾ افتعال وكذب.
٤٨٦