وانظر هل بقي لها معنى ﴿وظن داود﴾ أي : لذهابهم قبل فصل الأمر وقد همه من ذلك أمر من عظمه لا عهد له بمثله ﴿أنما فتناه﴾ أي : امتحناه، قال المفسرون : إن الظن هنا بمعنى العلم لأن داود لما قضى الأمر بينهما نظر أحدهما إلى صاحبه فضحك ثم صعدا إلى السماء حيال وجهه فعلم أن الله تعالى ابتلاه بذلك فثبت أن داود علم ذلك، وقال ابن عباس : إن داود لما دخل عليه الملكان فقضى على نفسه تحولا في صورتهما وعرجا وهما يقولان : قضى الرجل على نفسه ﴿فاستغفر ربه﴾ أي : طلب الغفران من مولاه الذي أحسن إليه ﴿وخرّ﴾ أي : سقط من قيامه توبة لربه عن ذلك ﴿راكعاً﴾ أي : ساجداً على تسمية السجود ركوعاً لأنه مبدؤه أو خر للسجود راكعاً أو مصلياً كأنه أحرم بركعتي الاستغفار ﴿وأناب﴾ أي : رجع إلى الله تعالى.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٩
قال الرازي : وللناس في هذه القصة ثلاثة أحوال ؛ أحدها : أن هذه القصة دلت على صدور الكبيرة منه، وثانيها : على الصغيرة، وثالثها : لا تدل على كبيرة ولا صغيرة، فأما القول الأول فقالوا : إن داود عليه السلام أحب امرأة أوريا فاحتال في قتل زوجها ثم تزوج بها ثم أرسل الله تعالى ملكين في صورة المتخاصمين في واقعة تشبه واقعته وعرضا تلك الواقعة عليه، فحكم داود بحكم لزم منه اعترافه بكونه مذنباً ثم تنبه لذلك واشتغل بالتوبة، قالوا : وسبب ذلك أن داود عليه السلام تمنى يوماً من الأيام منزلة آبائه إبراهيم وإسحاق ويعقوب وسأل ربه : أن يمتحنه كما امتحنهم ويعطيه من الفضل ما أعطاهم فأوحى الله تعالى إليه أنك تبتلى في يوم كذا فاحترس، فلما كان ذلك اليوم جاءه الشيطان فتمثل له في صورة حمامة من ذهب فيها من كل لون حسن فأعجبه حسنها فمد يده ليأخذها ويريها بني إسرائيل لينظروا إلى قدرة الله تعالى فطارت غير بعيدة فتبعها فطارت من كوة، فنظر داود أين تقع فأبصر داود امرأة في بستان تغتسل فعجب داود من حسنها وحانت منها التفاتة فأبصرت ظله فنقضت شعرها فغطى بدنها فزاده إعجاباً، فسأل عنها فقيل له : امرأة أوريا وزوجها في غزاة فأحب
٤٩٣
داود أن يقتله ويتزوج بها، فأرسل داود إلى ابن أخته أن قدم أوريا قبل التابوت وكان من قدم على التابوت لا يحل أن يرجع وراءه حتى يفتح الله تعالى على يديه أو يقتل، فقدمه ففتح على يديه فكتب إلى داود فأمر أن يقدمه بعد ذلك ففعل ثلاث مرات فقتل في الثالثة فلما انقضت عدتها تزوج بها فهي أم سليمان عليهما السلام.
قال الرازي : والذي أدين الله تعالى به وأذهب إليه أن ذلك باطل لوجوه.
الأول : أن هذه الحكاية لا تناسب داود لأنها لو نسبت إلى أفسق الناس وأشدهم فجوراً لانتفى منها والذي نقل هذه القصة لو نسب إلى مثل هذا العمل لبالغ في تنزيه نفسه وربما لعن من نسبه إليها فكيف يليق بالعاقل نسبة المعصية إلى داود عليه السلام.
ثانيها : أن حاصل القصة يرجع إلى أمرين إلى السعي في قتل رجل مسلم بغير حق وإلى الطمع في زوجته، أما الأول : فأمر منكر قال ﷺ "من سعى في ذم مسلم ولو بشطر كلمة جاء مكتوباً بين عينيه آيس من رحمة الله"، وأما الثاني : فمنكر أيضاً قال ﷺ "المسلم من سلم المسلمون من يده ولسانه" فإن أوريا لم يسلم من داود عليه السلام لا في روحه ولا في منكوحه.
ثالثها : إن الله تعالى وصف داود عليه السلام بصفات تنافي كونه عليه السلام موصوفاً بهذا الفعل المنكر.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٤٨٩
الصفة الأولى : أنه تعالى أمر محمداً ﷺ أن يقتدي بداود عليه السلام في المصابرة على المكاره فلو قلنا : إن داود لم يصبر على مخالفة النفس بل سعى في إراقة دم عبد مسلم لغرض شهوته فكيف يليق بأحكم الحاكمين أن يأمر محمداً أفضل الرسل ﷺ بأن يقتدي بداود في الصبر على طاعة الله تعالى.
الصفة الثانية : أنه وصفه بكونه عبداً له وقد بينا أن المقصود من هذا الوصف بيان كون ذلك الموصوف كاملاً في وصف العبودية في القيام بأداء الطاعات والاحتراز عن المحظورات، فلو قلنا : إن داود اشتغل بتلك الأعمال الباطلة فحينئذ ما كان داود كاملاً إلا في طاعة الهوى والشهوة.
الصفة الثالثة : وهي قوله تعالى ﴿ذا الأيد﴾ أي : ذا القوة ولا شك أن المراد منه القوة في الدين لأن القوة الكاملة في أداء الواجبات والاجتناب عن المحظورات وأي قوة لمن لم يملك نفسه عن القتل والرغبة في زوجة المسلم.
الصفة الرابعة : كونه أواباً كثير الرجوع إلى الله فكيف يليق هذا الوصف بمن قلبه مشغول بالفسق والفجور.
الصفة الخامسة : قوله تعالى :﴿إنا سخرنا الجبال معه يسبحن﴾ أَفَتَرى أنه سخرت له الجبال ليتخذ سبيل القتل والفجور ؟
الصفة السادسة : قوله تعالى :﴿والطير محشورة﴾ قيل : إنه كان محرماً عليه صيد شيء من
٤٩٤
الطير فكيف يعقل أن يكون الطير آمناً منه ولا يجوز أمن الرجل المسلم على روحه ومنكوحه.