﴿خلق السموات والأرض﴾ أي : أبدعهما من العدم وقوله تعالى :﴿بالحق﴾ متعلق بخلق لأن الدلائل التي ذكرها الله تعالى في إثبات الإلهية إما أن تكون فلكية أو أرضية، أما الفلكية فأقسام ؛ أحدها : خلق السموات والأرض، وثانيها : اختلاف الليل والنهار كما قال تعالى ﴿يكور﴾ أي : يدخل ﴿الليل على النهار ويكور النهار على الليل﴾ قال الحسن : ينقص من الليل فيزيد في النهار وينقص من النهار فيزيد في الليل فما نقص من الليل دخل في النهار، وما نقص من النهار دخل في الليل. قال البغوي : ومنتهى النقص تسع ساعات، ومنتهى الزيادة : خمس عشرة ساعة. وقال قتادة : يغشى هذا هذا كما قال تعالى ﴿يغشي الليل النهار﴾ (الأعراف : ٥٤)
وقال الرازي : إن النور والظلمة عسكران عظيمان وفي كل يوم يغلب هذا ذاك وذاك هذا وذلك يدل على أن كل واحد مغلوب مقهور ولابد من غالب قاهر لهما يكونان تحت تدبيره وقهره وهو الله تعالى انتهى. وورد في الحديث :"نعوذ بالله من الحور بعد الكور" أي : من النقصان بعد الزيادة وقيل : من الإدبار بعد الإقبال.
﴿وسخر﴾ أي : ذلل وأكره وقهر وكلف لما يريد من غير نفع للمسخر ﴿الشمس والقمر﴾ فإن الشمس سلطان النهار والقمر سلطان الليل وأكثر مصالح هذا العالم مربوطة بهما ﴿كلٌ﴾ أي : منهما ﴿يجري لأجل مسمى﴾ أي : إلى يوم القيامة لا يزالان يجريان إلى هذا اليوم فإذا كان يوم القيامة ذهبا، والمراد من هذا التسخير : أن هذه الأفلاك تدور كدوران المنجنون أي : الدولاب الذي يسقى عليه على حد واحد ﴿ألا هو العزيز﴾ أي : الغالب على أمره المنتقم من أعدائه ﴿الغفار﴾ أي : الذي له صفة الستر على الذنوب متكررة يمحو ذنوب من يشاء عيناً وأثراً بمغفرته.
ثم إنه تعالى لما ذكر الدلائل الفلكية أتبعها بذكر الدلائل السفلية فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥١٩
﴿خلقكم﴾ أيها الناس المدعون إلهية غيره ﴿من نفس واحدة﴾ وهي آدم عليه السلام ﴿ثم جعل منها﴾ أي : من تلك النفس ﴿زوجها﴾ حواء وإنما بدأ منها بذكر الإنسان لأنه أقرب وأكبر دلالة وأعجب، وفيه ثلاث دلالات : خلق آدم أولاً من غير أب وأم، ثم خلق حواء من قصيراه، ثم تشعب الخلق الفائت للحصر منهما
٥٢١
فهما آيتان إلا أن إحداهما جعلها الله تعالى عادة مستمرة والأخرى لم تجر بها العادة ولم يخلق أنثى غير حواء من قصيرى رجل.
تنبيه : في ثم هذه أوجه ؛ أحدها : أنها على بابها من الترتيب بمهلة وذلك يروى أن الله تعالى أخرج ذرية آدم ثم ظهره كالذر ثم خلق حواء بعد ذلك بزمان. ثانيها : أنها على بابها أيضاً لكن لمدرك آخر وهو أن يعطف بها ما بعدها على ما فهم من الصفة في قوله تعالى ﴿واحدة﴾ إذ التقدير من نفس وحدت أي : انفردت ثم جعل منها زوجها. ثالثها : أنها للترتيب في الإخبار لا في الزمان الوجودي كأنه قيل : كان من أمرها قبل ذلك أن جعل منها زوجها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
رابعها : أنها للترتيب في الأحوال والرتب. وقال الرازي : إن ثم كما تجيء لبيان كون إحدى الواقعتين متأخرة عن الثانية فكذلك تجيء لبيان تأخر إحدى الكلامين عن الآخر كقول القائل : بلغني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب وأعطيتك اليوم شيئاً ثم الذي أعطيتك أمس أكثر.
وقوله تعالى :﴿وأنزل لكم من الأنعام﴾ عطف على خلقكم والإنزال يحتمل الحقيقة، يروى أن الله تعالى خلقها في الجنة ثم أنزلها، ويحتمل المجاز وله وجهان ؛ أحدهما : أنها لما لم تعش إلا بالنبات والنبات إنما يعيش بالماء والماء ينزل من السحاب أطلق الإنزال عليها وهو في الحقيقة يطلق على سبب السبب كقول القائل :
*إذا نزل السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا*
والثاني : أن قضاياه وأحكامه منزلة من السماء من حيث كتبها في اللوح المحفوظ وهو أيضاً سبب في إيجادها. وقال البغوي : معنى الإنزال ههنا الإحداث والإنشاء كقوله تعالى :﴿أنزلنا عليكم لباساً﴾ (الأعراف : ٢٦)
وقيل : إنه إنزال الماء الذي هو سبب ثبات القطن والكتان وغيرهما الذي يجعلون منه اللباس. وقيل : معنى قوله ﴿أنزل لكم من الأنعام﴾ جعلها نزلاً لكم ورزقاً ومعنى قوله ﴿ثمانية أزواج﴾ أي : ثمانية أصناف وهي الإبل والبقر والضأن والمعز من كل زوجان ذكر وأنثى كما بين في سورة الأنعام وقوله تعالى :﴿يخلقكم في بطون أمهاتكم﴾ بيان لكيفية خلق ما ذكر من الأناسي والأنعام إظهاراً لما فيها من عجائب القدرة غير أنه تعالى غلب أولي العقل أو خصهم بالخطاب لأنهم المقصودون، وقرأ حمزة والكسائي في الوصل بكسر الهمزة، والباقون : بالضم وفي الابتداء الجميع بالضم وكسر حمزة الميم وفتحها الباقون ومعنى قوله تعالى :﴿خلقاً من بعد خلق﴾ ما ذكره الله تعالى بقوله :﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ثم جعلناه نطفة في قرار مكين﴾ (المؤمنون : ١٢ ـ ١٣)