تنبيه : يجوز في ما هذه أوجه ؛ أحدها : أن تكون موصولة بمعنى الذي مراعى بها الضر الذي كان يدعو إلى كشفه أي : ترك دعاءه كأنه لم يتضرع إلى ربه، ثانيها : أنها بمعنى الذي مراداً بها البارئ تعالى أي : نسي الله الذي كان يتضرع إليه وهذا عند من يجيز وقوع ما على أولي العلم. وقال الرازي : ما بمعنى من كقوله تعالى :﴿وما خلق الذكر والأنثى﴾ (الليل : ٣)
وقوله :﴿ولا أنتم عابدون ما أعبد﴾ (الكافرون : ٣)
وقوله ﴿فانكحوا ما طاب لكم﴾ (النساء : ٣)
ثالثها : أن تكون مصدرية أي : نسي كونه داعياً ﴿وجعل﴾ أي : ذلك الإنسان زيادة على الكفران بالنسيان للإحسان ﴿لله﴾ أي : الذي لا مكافئ له بشهادة الفطرة والسمع والعقل ﴿أنداداً﴾ أي : شركاء ﴿ليضل عن سبيله﴾ أي : دين الإسلام وقرأ ابن كثير وأبو عمرو بفتح الياء بعد اللام أي : ليفعل الضلال بنفسه والباقون بضمها أي : لم يقنع بضلاله في نفسه حتى يحمل غيره عليه فمفعوله محذوف، واللام يجوز أن تكون للعلة وأن تكون لام العاقبة كقوله تعالى :﴿فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزناً﴾ (القصص : ٨)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
واختلف في سبب نزول قوله تعالى لنبيه محمد ﷺ ﴿قل﴾ أي : لهذا الذي قد حكم بكفره ﴿تمتع﴾ أي : في هذه الدنيا ﴿بكفرك قليلاً﴾ أي : بقية أجلك فقال مقاتل : نزل في أبي حذيفة بن
٥٢٤
المغيرة المخزومي، وقيل : في عتبة بن ربيعة وقيل : عام في كل كافر، وهذا أمر تهديد وفيه إقناط للكافر من التمتع في الآخرة ولذلك علله بقوله تعالى :﴿إنك من أصحاب النار﴾ أي : الذين لم يخلقوا إلا لها على سبيل الاستئناف للمبالغة قال تعالى ﴿ولقد ذرأنا لجهنم كثيراً من الجن والإنس﴾ (الأعراف : ١٧٩)
الآية.
ولما شرح الله تعالى صفات المشركين وتمسكهم بغير الله تعالى أردفه بشرح المخلصين فقال تعالى :
﴿أمن هو قانتٌ﴾ أي : قائم بوظائف الطاعات ﴿آناء الليل﴾ أي : جميع ساعاته ومن إطلاق القنوت على القيام قوله ﷺ "أفضل الصلاة صلاة القنوت" وهو القيام فيها ومنه القنوت لأنه يدعو قائماً، وعن ابن عمر أنه قال : لا أعلم القنوت إلا قراءة القرآن وطول القيام وتلا ﴿أمن هو قانت﴾ وعن ابن عباس : القنوت الطاعة لقوله تعالى :﴿كل له قانتون﴾ (البقرة : ١١٦)
أي : مطيعون، وقرأ نافع وابن كثير وحمزة بتخفيف الميم والباقون بتشديدها وفي القراءة الأولى وجهان ؛ أحدهما : أن الهمزة همزة الاستفهام دخلت على من بمعنى الذي والاستفهام للتقرير ومقابله محذوف تقديره أمن هو قانت كمن جعل لله أنداداً أو أمن هو قانت كغيره، وأما القراءة الثانية : فأم داخلة على من الموصولة أيضاً فأدغمت الميم في الميم وفي أم حينئذ قولان ؛ أحدهما : أنها متصلة ومعاد لها محذوف تقديره الكافر خير أم الذي هو قانت، والثاني : أنها منقطعة فتقدر ببل والهمزة أي : بل أمن هو قانت كغيره أو كالكافر المقول له تمتع بكفرك وقوله تعالى ﴿ساجداً﴾ أي : وراكعاً ﴿وقائماً﴾ أي : وقاعداً في صلاته حالان من ضمير قانت.
تنبيه : في هذه الآية دلالة على أن قيام الليل أفضل من قيام النهار، واختلف في سبب نزولها فقال ابن عباس : نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه، وقال الضحاك : في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، وقال أبو عمرو : في عثمان رضي الله تعالى عنه، وقال الكلبي : في ابن مسعود وعمار وسلمان رضي الله تعالى عنهم.
وقوله تعالى :﴿يحذر الآخرة﴾ أي : عذاب الآخرة يجوز أن يكون حالاً من الضمير في ساجداً وقائماً أو من الضمير في قانت وأن يكون مستأنفاً جواباً لسؤال مقدر كأنه قيل : ما شأنه يقنت آناء الليل ويتعب نفسه ويكدها قيل : يحذر الآخرة ﴿ويرجو رحمة﴾ أي : جنة ﴿ربه﴾ الذي لم يزل يتقلب في إنعامه وفي الكلام حذف والتقدير كمن لا يفعل شيئاً من ذلك، وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ذكر الكافر قبل هذه الآية وذكر بعدها.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢١
قل هل يستوي﴾ أي : في الرتبة ﴿الذين يعلمون﴾ أي : وهم الذين صفتهم أنهم يقنتون آناء الليل ساجدين وقائمين ﴿والذين لا يعلمون﴾ أي : وهم صفتهم عند البلاء والخوف يوحدون وعند الراحة والفراغ يشركون، وإنما وصف الله تعالى الكفار بأنهم لا يعلمون لأن الله تعالى وإن أعطاهم آلة العلم إلا أنهم أعرضوا عن تحصيل العلم، فلهذا جعلهم الله تعالى كأنهم ليسوا من أولي الألباب من حيث إنهم لم ينتفعوا بعقولهم وقلوبهم، وفي هذا تنبيه على فضيلة العلم، قيل : لبعض العلماء : إنكم تقولون : العلم أفضل من المال ثم نرى العلماء، عند أبواب الملوك ولا نرى
٥٢٥
الملوك عند أبواب العلماء فأجاب بأن هذا أيضاً يدل على فضيلة العلم لأن العلماء علموا ما في المال من المنافع فطلبوه، والجهال لم يعرفوا ما في العلم من المنافع فلا جرم تركوه.