﴿وأنابوا﴾ أي : رجعوا ﴿إلى الله﴾ أي : إلى عبادة الله بكليتهم وتركوا ما كانوا عليه من عبادة غيره ثم إنه تعالى وعد هؤلاء بأشياء أحدها قوله تعالى :﴿لهم البشرى﴾ أي : في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا : فالثناء عليهم بصالح أعمالهم وعند نزول الموت وعند الوضع في القبر، وأما في الآخرة : فعند الخروج من القبور وعند الوقوف للحساب وعند جواز الصراط وعند دخول الجنة ففي كل موقف من هذه المواقف تحصل لهم البشارة بنوع من الخير والراحة والروح والريحان.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢٧
تنبيه : يحتمل أن يكون المبشر لهم هم الملائكة عليهم السلام لأنهم يبشرونهم عند الموت لقوله تعالى :﴿الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم﴾ (النحل : ٣٢)
وعند دخول الجنة لقوله تعالى :﴿والملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبى الدار﴾ (الرعد : ٢٣ ـ ٢٤)
ويحتمل أن يكون هو الله تعالى لقوله تعالى :﴿تحيتهم يوم يلقونه سلام﴾ (الأحزاب : ٤٤)
ولا مانع أن يكون من الله تعالى ومن الملائكة عليهم السلام فإن فضل الله سبحانه واسع وقوله تعالى :﴿فبشر عباد﴾ قرأه السوسي بياء بعد الدال مفتوحة في الوصل ساكنة في الوقف والباقون بغير ياء.
﴿الذين يستمعون﴾ أي : بجميع قلوبهم ﴿القول فيتبعون﴾ أي : بكل عزائمهم بعد انتقاده ﴿أحسنه﴾ أي : بما دلتهم عليه عقولهم من غير عدول إلى أدنى.
تنبيه : في هذا وضع الظاهر موضع مضمر ﴿الذين اجتنبوا﴾ للدلالة على مبدإ إحسانهم وأنهم نقاد في الدين يميزون بين الحسن والأحسن والفاضل والأفضل، فإذا اعترضهم أمران واجب
٥٢٩
وندب اختاروا الواجب أو مباح وندب اختاروا الندب حرصاً على ما هو أقرب عند الله وأكثر ثواباً، ويدخل تحت ذلك أبواب التكاليف وهي قسمان : عبادات ومعاملات، فأما العبادات فكقولنا : الصلاة التي يذكر في تحريمها الله أكبر مع اقتران النية ويقرأ فيها بالفاتحة ويؤتى فيها بالطمأنينة في مواضعها الخمسة ويتشهد فيها ويخرج منها بالسلام، لا شك أنها أحسن من الصلاة التي لا يراعى فيها شيء من هذه الأحوال. قال الرازي : فوجب على العاقل أن يختار هذه الصلاة دون غيرها ا. ه وكذا القول في جميع أبواب العبادات. قال في الكشاف : ويدخل تحته المذاهب واختيار أثبتها على السبك وأقواها على السبر وأبينها دليلاً أو أمارة ولا تكن في مذهبك كما قال القائل :
*ولا تكن مثل غير قيد فانقادا*
يريد : المقلد ا. ه، وأما المعاملات فكإنظار المعسر وإبرائه فالإبراء أولى وإن كان الأول واجباً، والثاني : مندوباً وكذا القول في جميع المعاملات. وقيل : يسمعون القرآن وغيره فيتبعون القرآن وقيل : يسمعون أوامر الله تعالى فيتبعون أحسنها نحو القصاص والعفو قال تعالى :﴿وأن تعفوا أقرب للتقوى﴾ (البقرة : ٢٣٧)
وعن ابن عباس : هو الرجل يجلس مع القوم فيسمع الحديث فيه محاسن ومساوىء فيحدث بأحسن ما يسمعه ويكف عما سواه. وروي عن ابن عباس آمن أبو بكر بالنبي ﷺ فجاءه عثمان وعبد الرحمن بن عوف وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد فسألوه فأخبرهم بإيمانه فآمنوا فنزل فيهم ﴿فبشر عبادي﴾ الآية.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٢٧
أولئك﴾
أي : العالو الهمة والرتبة ﴿الذين هداهم الله﴾ بما له من صفات الكمال لدينه ﴿وأولئك أولو الألباب﴾ أي : أصحاب العقول السليمة عن منازعة الوهم والعادة، وقال أبو زيد : نزل ﴿والذين اجتنبوا الطاغوت﴾ (الزمر : ١٧)
الآيتين في ثلاثة نفر كانوا في الجاهلية يقولون لا إله إلا الله زيد بن عمرو وأبو ذر الغفاري وسلمان الفارسي والأحسن لا إله إلا الله.
وفي هذه الآية لطيفة وهي : أن حصول الهداية في العقل والروح حادث فلا بد من فاعل وقابل، فأما الفاعل : فهو الله تعالى وهو المراد من قوله تعالى :﴿أولئك الذين هداهم الله﴾ وأما القابل فإليه الإشارة بقوله تعالى :﴿وأولئك هم أولو الألباب﴾ فإن الإنسان ما لم يكن عاقلاً كامل الفهم امتنع حصول هذه المعارف الحقيقية في قلبه.
واختلف في معنى قوله تعالى :
﴿أفمن حق﴾ وأسقط تاء التأنيث الدالة على اللين تأكيداً للنهي عن الأسف عليهم ﴿عليه كلمة العذاب﴾ فقال ابن عباس معنى الآية من سبق في علم الله أنه في النار، وقيل : كلمة العذاب قوله تعالى :﴿لأملأن جهنم﴾ (الأعراف : ١٨)
الآية وقيل : قوله تعالى :"هؤلاء للنار ولا أبالي" وقوله تعالى ﴿أفأنت تنقذ﴾ أي : تخرج ﴿من في النار﴾ جواب الشرط وأقيم فيه الظاهر مقام الضمير إذ كان الأصل أفأنت تنقذه، وإنما وقع موقعه شهادة عليه بذلك، والهمزة للإنكار والمعنى : لا تقدر على هدايته فتنقذه من النار وقال ابن عباس : يريد أبا لهب وولده ويجوز أن تكون من موصولة في محل رفع بالابتداء وخبره محذوف. واختلف في تقديره فقدره أبو
٥٣٠


الصفحة التالية
Icon