فكيف جعله في هذه الآية سبباً لحصول القسوة في القلب ؟
أجيب : بأن النفس إذا كانت خبيثة الجوهر كدرة العنصر، بعيدة عن مناسبة الروحانيات شديدة الميل إلى الطباع البهيمية والأخلاق الذميمة فإن سماعها لذكر الله تعالى يزيدها قسوة وكدرة، مثاله أن الفاعل الواحد تختلف أمثاله بحسب اختلاف القوابل كنور الشمس يسود وجه القصار ويبيض ثوبه، وحرارة الشمس تلين الشمع وتعقد الملح، وقد نرى إنساناً واحداً يذكر كلاماً واحداً في مجلس واحد فيستطيبه واحد ويستكرهه غيره وما ذاك إلا بحسب اختلاف جواهر النفوس، ولما نزل قوله تعالى :﴿ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين﴾ (المؤمنون : ١٢)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٢
الآية وعمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه حاضر وإنسان آخر فلما انتهى رسول الله ﷺ إلى قوله تعالى :﴿ثم أنشأناه خلقاً آخر﴾ (المؤمنون : ١٤)
قال كل واحد منهما ﴿تبارك الله أحسن الخالقين﴾ (المؤمنون : ١٤)
فقال رسول الله ﷺ "اكتب فكذا نزلت" فازداد عمر رضي الله عنه إيماناً على إيمانه وارتد ذلك الإنسان. وإذا عرف ذلك لم يبعد أن يكون ذكر الله تعالى يوجب النور والهداية والاطمئنان في النفوس الطاهرة الروحانية ويوجب القنوط والبعد عن الحق في النفوس الخبيثة، وقيل : من بمعنى عن أي : قست قلوبهم عن قبول ذكر الله وجرى على ذلك الجلال المحلي ﴿أولئك﴾ أي : هؤلاء البعداء ﴿في ضلال مبين﴾ أي : بين قيل : نزلت هذه الآية في أبي بكر رضي الله عنه وفي أبي بن خلف، وقيل : في علي وحمزة وأبي لهب وولده وقيل : في رسول الله ﷺ وفي أبي جهل.
﴿الله﴾ الفعال لما يريد الذي له مجامع العظمة والإحاطة بصفات الكمال ﴿نزل﴾ أي : بالتدريج للتدريب وللجواب عن كل شبهة ﴿أحسن الحديث﴾ أي : القرآن روي أن أصحاب رسول الله ﷺ ملوا ملة فقالوا : حدثنا فنزلت وكونه أحسن الحديث لوجهين ؛ أحدهما : من جهة اللفظ،
٥٣٢
والآخر : من جهة المعنى، أما الأول : فلأن القرآن أفصح الكلام وأبلغه وأجزله وليس هو من جنس الشعر ولا من جنس الخطب ولا من جنس الرسائل بل هو نوع يخالف الكل في أسلوبه مع أن كل طبع سليم يستلذه ويستطيبه، وأما من جهة المعنى : فهو منزه عن التناقض والاختلاف قال جل ثناؤه :﴿ولو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافاً كثيراً﴾ (النساء : ٨٢)
ومشتمل على أخبار الماضين وقصص الأولين وعلى أخبار الغيوب الكثيرة في الماضي والمستقبل وعلى الوعد والوعيد والجنة والنار، وفي إيقاع لفظ الجلالة مبتدأ وبناء نزل عليه تفخيم لأحسن الحديث واستشهاد على حسنه وتأكيده لاستناده إلى الله تعالى وأنه من عنده وأن مثله لا يجوز أن يصدر إلا عنه وتنبيه على أنه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.
وقوله تعالى :﴿كتاباً﴾ أي : جامعاً لكل خير بدل من أحسن الحديث، وقيل : حال منه بناءً على أن أحسن الحديث معرفة لإضافته إلى معرفة، وأفعل التفضيل إذا أضيف إلى معرفة فيه خلاف فقيل : إضافته محضة وقيل : غير محضة والصحيح الأول وقوله تعالى :﴿متشابهاً﴾ نعت لكتاباً وهو المسوغ لمجيء الجامد حالاً أو أنه في قوة مكتوب وتشابهه بتشابه أبعاضه في الإعجاز والبلاغة والموعظة الحسنة لا تفاوت فيه أصلاً في لفظ ولا معنى مع كونه نزل مفرقاً في نيف وعشرين سنة، وأما كلام الناس فلا بد فيه من التفاوت وإن طال الزمان في التهذيب سواء اتحد زمانه أم لا.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٢
وقوله تعالى :﴿مثاني﴾ جمع مثنى بمعنى مردد ومكرر لما ثنى من قصصه وأنبائه وأحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده مواعظه أو جمع مثنى مفعل من التثنية بمعنى التكرير والإعادة، وقيل : لأنه يثنى في التلاوة فلا يمل كما جاء في وصفه لا يخلق على كثرة الترداد.
فإن قيل : كيف وصف كتاباً وهو مفرد بالجمع ؟
أجيب : بأن الكتاب جملة ذات تفاصيل وتفاصيل الشيء هي جملته لا غير ألا ترى أنك تقول : القرآن أسباع وأخماس وسور وآيات فكذلك تقول : أقاصيص وأحكام ومواعظ مكررات ونظيره قولك الإنسان عظام وعروق وأعصاب إلا أنك تركت الموصوف إلى الصفة وأصله كتاباً متشابهاً فصولاً مثاني، ويجوز أن يكون مثاني منتصباً على التمييز من متشابهاً كما تقول : رأيت رجلاً حسناً شمائل.