﴿فمن﴾ أي : لا أحد ﴿أظلم﴾ أي : منهم هكذا كان الأصل، ولكن قال تعالى :﴿ممن كذب﴾ تعميماً ﴿على الله﴾ أي : الذي الكبرياء رداؤه والعظمة إزاره بنسبة الولد والشريك إليه ﴿وكذب﴾ أي : أوقع التكذيب لكل من أخبره ﴿بالصدق﴾ أي : بالأمر الذي هو الصدق بعينه وهو ما جاء به محمد ﷺ ﴿إذ جاءه﴾ أي : فاجأه بالتكذيب لما سمع من غير وقفة ولا إعمال روية بتمييز بين حق وباطل كما يفعل أهل النصفة فيما يستمعون، وقرأ نافع وابن كثير وابن ذكوان وعاصم بإظهار الذال عند الجيم والباقون بالإدغام، ثم أردف ذلك بالوعيد فقال :﴿أليس في جهنم﴾ أي : النار التي تلقى داخلها بالتجهم والعبوسة كما كان يلقى الحق وأهله ﴿مثوى﴾ أي : مأوى ﴿للكافرين﴾ أي : لهؤلاء الذين كذبوا على الله وكذبوا بالصدق، واللام في للكافرين إشارة إليهم والاستفهام بمعنى التقرير.
ولما ذكر من افترى وكذب ذكر مقابله وهو الذي جاء بالصدق وصدق به بقوله تعالى :
﴿والذي جاء بالصدق﴾ قال قتادة ومقاتل : هو النبي ﷺ ﴿وصدق به﴾ هم المؤمنون فالذي بمعنى الذين ولذلك روعي معناه فجمع في قوله تعالى :﴿أولئك﴾ أي : العالو الرتبة ﴿هم المتقون﴾ أي : الشرك كما روعي معنى من في قوله تعالى :﴿للكافرين﴾ فإن الكافرين ظاهر واقع موقع الضمير، إذ الأصل مثوى لهم وكما في قوله تعالى :﴿مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً﴾ (البقرة : ١٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٧
ثم قال ﴿ذهب الله بنورهم﴾ (البقرة : ١٧)
قال الزمخشري : ويجوز أن يريد الفوج أو الفريق الذي جاء بالصدق وصدق به وهم الرسول الذي جاء بالصدق وصحابته رضي الله تعالى عنهم الذين صدقوا به ا. ه قال أبو حيان : وفيه توزيع للصلة والفوج هو الموصول فهو كقولك : جاء الفريق الذي شرف وشرف، والأظهر عدم التوزيع بل المعطوف على الصلة صلة لمن له الصلة الأولى، وقيل : بل الأصل والذين جاء بالصدق فحذفت النون تخفيفاً كقوله تعالى :﴿كالذي خاضوا﴾ (التوبة : ٦٩)
قال ابن عادل : وهذا وهم إذ لو قصد ذلك لجاء بعده ضمير الجمع فكان يقال : والذي جاؤوا كقوله
٥٣٨
تعالى :﴿كالذي خاضوا﴾ ويدل عليه أن نون التثنية إذا حذفت عاد الضمير مثنى كقوله :
*أبني كليب إن عميّ اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا*
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : والذي جاء بالصدق يعني : رسول الله ﷺ جاء بلا إله إلا الله وصدق به الرسول أيضاً بلغه إلى الخلق. وقال السدي : والذي جاء بالصدق جبريل عليه السلام جاء بالقرآن وصدق به محمد ﷺ تلقاه بالقبول، وقال أبو العالية والكلبي : والذي جاء بالصدق رسول الله ﷺ وصدق به أبو بكر رضي الله عنه، وقال عطاء : والذي جاء بالصدق الأنبياء وصدق به الأتباع، وقال الحسن : هم المؤمنون صدقوا به في الدنيا وجاؤوا به في الآخرة وقوله تعالى :
﴿لهم ما يشاؤون﴾ أي : من أنواع الكرامات ﴿عند ربهم﴾ أي : في الجنة يدل على حصول الثواب على أكمل الوجوه ﴿ذلك﴾ أي : هذا الجزاء ﴿جزاء المحسنين﴾ لأنفسهم بإيمانهم. وقوله تعالى :
﴿ليكفر الله عنهم﴾ يدل على سقوط العقاب عنهم على أكمل الوجوه ومعنى تكفيرها أن يسترها عليهم بالمغفرة.
تنبيه : في تعلق هذه اللام وجهان أحدهما : أنها متعلقة بمحذوف أي : يسر لهم ذلك ليكفر، ثانيهما : أنها متعلقة بنفس المحسنين كأنه قيل : الذين أحسنوا ليكفر أي : لأجل التكفير وقوله تعالى :﴿أسوأ الذي﴾ أي : العمل الذي ﴿عملوا﴾ فيه مبالغة فإنه إذا كفر غيره أولى بذلك أو للإيذان بأن الشيء الذي يفرط منهم من الصغائر والزلات المكفرة هو عندهم الأسوأ لاستعظامهم المعصية أو أنه بمعنى السيء كما جرى عليه الجلال المحلي كقولهم : الناقص والأشج أعدلا بني مروان أي : عادلاهم إذ ليس المراد به التفضيل، والناقص هو محمد الخليفة سمي به ؛ لأنه نقص أعطية القوم والأشج هو عمر بن عبد العزيز سمي به لشجة أصابت رأسه.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٣٧
ويجزيهم أجرهم﴾
أي : ويعطيهم ثوابهم ﴿بأحسن الذي﴾ أي : العمل الذي ﴿كانوا يعملون﴾ أي : فيعد لهم محاسن أعمالهم بأحسنها في زيادة الأجر لحسن إخلاصهم فيها وهذا أولى من قول الجلال المحلي إنه بمعنى الحسن. وقوله تعالى :
﴿أليس الله﴾ أي : الجامع لصفات الكمال كلها المنعوت بنعوت العظمة والجلال ﴿بكاف عبده﴾ أي : الخالص له استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات، وقرأ حمزة والكسائي بكسر العين وفتح الباء الموحدة وألف بعدها على الجمع، وقرأ الباقون بفتح العين وسكون الباء على الإفراد، فقراءة الإفراد محمولة على النبي ﷺ وقراءة الجمع على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فإن قومهم قصدوهم بالسوء كما قال الله تعالى ﴿وهمت كل أمة برسولهم
٥٣٩
ليأخذوه﴾
(غافر : ٥)


الصفحة التالية
Icon