قال الزجاج : لما انتهى موسى إلى البحر هاجت الريح والبحر يرمي بموج كالجبال، فقال يوشع : يا كليم الله يا ابن امرأة عمران قد غشينا فرعون والبحر أمامنا، فقال موسى : ههنا فخاض يوشع الماء وجاز البحر ما يواري حافر دابته الماء، وقال الذي يكتم إيمانه يا كليم الله أين أمرت قال ههنا، فكبح فرسه بلجامه حتى طار الزبد من شدقيه، ثم أقحمه البحر فارتسب في الماء، وصنع القوم مثل ذلك فلم يقدروا فجعل موسى لا يدري كيف يصنع، فأوحى الله إليه أن اضرب بعصاك البحر فضربه، فانفلق فصار فيه اثنا عشر طريقاً لكل سبط طريق فإنّ الرجل على فرسه لم يبتلّ سرجه ولا لبده.
روي : أنّ موسى قال عند ذلك يا من كان قبل كل شيء والمكوّن لكل شيء والكائن بعد كل شيء، وهذا معجز عظيم من وجوه : أحدهما : أن تفرّق ذلك الماء معجز وثانيها : أنّ اجتماع ذلك الماء فوق كل فرق منه حتى صار كالجبل معجز أيضاً، وثالثها : أنه ثبت في الخبر أنه تعالى أرسل على فرعون وقومه من الرياح والظلمة ما حيرهم فاحتبسوا القدر الذي تكامل معه عدد بني إسرائيل وهذا معجز ثالث، ورابعها : أن جعل الله في تلك الجدران المائية كوى ينظر بعضهم إلى بعض وهذا معجز رابع، وخامسها : أن أبقى الله تعالى تلك المسالك حتى قرب آل فرعون فطمعوا أن يتخصلوا من البحر كما تخلص موسى عليه السلام وهذا معجز خامس.
فائدة : لكل من جميع القراء في الراء من فرق الترقيق والتفخيم. ولما كان التقدير : وأدخلنا كل شعب منهم في طريق من تلك الطرق عطف عليه.
﴿وأزلفنا﴾ أي : قربنا بعظمتنا ﴿ثم﴾ أي : هناك ﴿الآخرين﴾ أي : فرعون وقومه حتى سلكوا مسالكهم وقال أبو عبيدة : وأزلفنا أخلفنا، ومنه ليلة المزدلفة أي : ليلة الجمع، عن عطاء بن السائب : أنّ جبريل عليه السلام كان بين بني إسرائيل وقوم فرعون وكان يسوق بني إسرائيل ويقول ليلحق آخركم بأولكم ويستقبل القبط ويقول رويدكم ليلحق آخركم أولكم.
﴿وأنجينا موسى ومن معه﴾ وهم من تبعوه من قومه وغيرهم ﴿أجمعين﴾ أي : لم نقدّر على أحد منهم الهلاك بل أخرجناهم من البحر على هيئته المذكورة.
﴿ثم أغرقنا الآخرين﴾ أي : فرعون وقومه أجمعين بانطباق البحر عليهم لما تم دخولهم البحر وخروج بني إسرائيل منه، ويقال هذا البحر بحر القلزم، وقيل : هو بحر من وراء مصر يقال له أساف.
﴿إنّ في ذلك﴾ أي : الأمر العظيم العالي الرتبة من قصة موسى وفرعون وما فيها من العظات ﴿لآية﴾ أي : علامة عظيمة دالة على قدرة الله تعالى لأنّ أحداً من البشر لا يقدر عليه وعلى حكمته وكون وقوعه مصلحة في الدين والدنيا أو على صدق موسى لكونه معجزة له وعلى التحذير عن
٥٥
مخالفة أمر الله تعالى ورسوله عليه السلام، وفي ذلك تسلية للنبيّ ﷺ لأنه قد بغتم بتكذيب قومه معه ظهور المعجزات عليه فنبه الله تعالى بهذا الذكر على أنّ له أسوة بموسى وغيره ﴿وما كان أكثرهم﴾ أي : أهل مصر الذين شاهدوها والذين وعظوا بسماعها ﴿مؤمنين﴾ أي : متصفين بالإيمان الثابت، أما القبط فما آمن منهم إلا السحرة ومؤمن آل فرعون وامرأة فرعون والمرأة التي دلتهم على عظام يوسف عليه السلام، وأما بنو إسرائيل فكان كثير منهم متزلزلاً يتعنت كل قليل ويقول ويفعل ما هو كفر حتى تداركهم الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ومن بعده، وأول ما كان من ذلك سؤالهم إثر مجاوزة البحر أن يجعل لهم إلهاً كالأصنام التي مرّوا عليها، وأمّا غيرهم ممن تأخر عنهم فحالهم معروف وأمرهم مشاهد مكشوف فقد سألوه بقرة يعبدونها واتخذوا العجل وطلبوا رؤية الله جهرة.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٤
وإن ربك﴾
أي : المحسن إليك بإعلاء أمرك واستنقاذ الناس من ظلام الجهل على يدك ﴿لهو العزيز﴾ أي : القادر على الانتقام من كل فاجر ﴿الرحيم﴾ بعباده لأنه تعالى أفاض عليهم نعمه وكان قادراً على أن يهلكهم، فدل ذلك على كمال رحمته وسعة جوده وفضله. ولما أتم سبحانه وتعالى ما أراد من قصة موسى عليه السلام ليعرف محمداً ﷺ أن تلك المحن التي أصابته كانت حاصلة لموسى، أتبعه دلالة على رحمته وزيادة في تسلية نبيه قصة إبراهيم عليه السلام وهي القصة الثانية بقوله تعالى :
﴿واتل﴾ أي : اقرأ قراءة متتابعة يا أشرف الخلق ﴿عليهم﴾ أي : كفار مكة وقوله تعالى :﴿نبأ﴾ أي : خبر ﴿إبراهيم﴾ قراءة نافع وابن كثر وأبو عمرو في الوصل بتسهيل الهمزة الثانية، وحققها الباقون، وفي الابتداء بالثانية الجميع يحققون ويبدل منه.
﴿إذ﴾ أي : حين ﴿قال لأبيه وقومه﴾ منبهاً لهم على ضلالهم لا مستعلماً لأنه كان عالماً بحقيقة حالهم ولكنه سألهم بقوله :﴿ما﴾ أي : أي شيء ﴿تعبدون﴾ أي : تواطئون على عبادته ليريهم أن ما يعبدونه ليس من استحقاق العبادة في شيء كما تقول للتاجر ما مالك وأنت تعلم أن ماله الرقيق، ثم تقول الرقيق جمال وليس بمال.


الصفحة التالية
Icon