فإذا قيل لواحد منهم : اذهب إلى الجنة فيقول : لا أدخلها إلا مع أحبابي وأصدقائي فيتأخرون لهذا السبب فحينئذ يحتاجون إلى السوق إلى الجنة.
ولما ذكر تعالى السوق ذكر غايته بقوله تعالى :﴿حتى إذا جاؤوها﴾ اختلف في جواب إذا على أوجه أحدها قوله تعالى :﴿وفتحت أبوابها﴾ والواو زائدة وهو رأي الكوفيين والأخفش، وإنما جيء هنا بالواو دون التي قبلها لأن أبواب السجون مغلقة عادة إلى أن يجيئها صاحب الجريمة فتفتح له ثم تغلق عليه فناسب ذلك عدم الواو فيها بخلاف أبواب السرور والفرح فإنها تفتح انتظاراً لمن يدخلها، فعلى هذا أبواب جهنم تكون مغلقة لا تفتح إلا عند دخول أهلها فيها، فأما أبواب الجنة ففتحها يكون مقدماً على دخولهم إليها كما قال تعالى :﴿جنات عدن مفتحة لهم الأبواب﴾ (ص : ٥٠)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٥٤
فلذلك جيء بالواو فكأنه قال : حتى إذا جاؤوها وقد فتحت أبوابها.
ثانيها قوله تعالى :﴿وقال لهم خزنتها﴾ أي : بزيادة الواو أيضاً أي : حتى إذا جاؤوها قال لهم خزنتها، ثالثها : قال الزجاج : القول عندي إن الجواب محذوف تقديره دخلوها بعد قوله تعالى :﴿إذا جاؤوها وفتحت أبوابها وقال لهم خزنتها﴾ أي : حين الوصول ﴿سلام عليكم﴾ تعجيلاً للمسرة بالبشارة بالسلامة التي لا عطب فيها ﴿طبتم﴾ أي : صلحتم لسكناها لأنها دار طهرها الله تعالى من كل دنس وطيبها من كل قذر فلا يدخلها إلا مناسب لها موصوف بصفتها فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة وما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة إلا أن يهب لنا الوهاب الكريم توبة نصوحاً تنقي أنفسنا من درن الذنوب وتميط وضر هذه القلوب ثم سببوا عن ذلك ﴿فادخلوها خالدين﴾ أي : مقدرين الخلود. وسمى بعضهم الواو في قوله تعالى :﴿وفتحت﴾ واو الثمانية قال : لأن أبواب الجنة ثمانية وكذا قالوا في قوله تعالى :﴿وثامنهم كلبهم﴾ (الكهف : ٢٢)
وقيل : تقدير الجواب ﴿حتى إذا جاؤوها وفتحت أبوابها﴾ يعني أن الجواب بلفظ الشرط ولكنه بزيادة تقييده بالحال فلذلك صح، وقدره الجلال المحلي بقوله : دخلوها وقال : إن قوله تعالى :
﴿وقالوا﴾ عطف على دخلوها المقدر ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بأوصاف الكمال ﴿لله﴾ أي : الملك الأعظم ﴿الذي صدقنا وعده﴾ في قوله تعالى :﴿تلك الجنة التي نورث من عبادنا من كان تقياً﴾ (مريم : ٦٣)
فطابق قوله الواقع الذي وجدناه في هذه الساعة ﴿وأورثنا﴾ كما وعدنا ﴿الأرض﴾ أي : الأرض التي لا أرض في الحقيقة غيرها وهي أرض الجنة التي لا كدر فيها بوجه وفيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين وقولهم :﴿نتبوأ﴾ أي : ننزل ﴿من الجنة حيث نشاء﴾ جملة حالية
٥٥٧
وحيث ظرف على بابها وقيل : مفعول به، وإنما عبر عن أرض الجنة بالأرض لوجهين ؛ أحدهما : أن الجنة كانت في أول الأمر لآدم عليه السلام لأنه تعالى قال :﴿فكلا منها رغداً حيث شئتما﴾ فلما عادت الجنة إلى أولاد آدم عليه السلام كان ذلك سبباً للإرث، ثانيها : أن الوارث ينصرف فيما ورثه كيف شاء من غير منازع فكذلك المؤمنون يتصرفون في الجنة حيث شاؤوا وأرادوا، فإن قيل : كيف يتبوأ أحدهم مكان غيره ؟
أجيب : بأن لكل واحد منهم جنة لا توصف سعة وزيادة على الحاجة فيتبوأ من جنته حيث شاء ولا يحتاج إلى جنة غيره ولا يشتهي أحد إلا مكانه مع أن في الجنة مقامات معنوية لا يتمانع واردوها ولما كانت بهذا الوصف الجليل تسبب عنه مدحها بقوله :﴿فنعم﴾ أي : أجرنا هكذا كان الأصل ولكنه قال :﴿أجر العاملين﴾ ترغيباً في الأعمال وحثاً على عدم الاتكال.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٥٤
ولما ذكر سبحانه الذين أكرمهم من المتقين وما وصلوا إليه من المقامات أتبعهم أهل الكرامات الذين لا شاغل لهم عن العبادات فقال تعالى صارفاً الخطاب لعلو الخبر إلى أعلى الخلق لأنه لا يقوم بحق هذه الرؤية غيره :
﴿وترى الملائكة﴾ أي : القائمين بجميع ما عليهم من الحقوق وقوله تعالى :﴿حافين﴾ حال أي : محدقين ﴿من حول العرش﴾ أي : من جوانبه التي يمكن الحفوف بها بالقرب منها يسمع لحفوفهم صوت التسبيح والتحميد والتقديس والاهتزاز خوفاً من ربهم، فإدخال من يفهم مع كثرتهم إلى حد لا يحصيه إلا الله تعالى أنهم لا يملؤون حوله، وهذا أولى من قول البيضاوي : إن من زائدة وقوله تعالى :﴿يسبحون﴾ حال من ضمير حافين ﴿بحمد ربهم﴾ أي : متلبسين بحمده يقولون سبحان الله وبحمده فهم ذاكرون له بوصفي جلاله وإكرامه تلذذاً به، وفيه إشعار بأن منتهى درجات العليين وأعلى لذائذهم هو الاستغراق في صفات الحق ﴿وقضي بينهم﴾ أي : بين جميع الخلق ﴿بالحق﴾ أي : العدل فيدخل المؤمن الجنة والكافر النار أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم ﴿وقيل﴾ أي : وقال المؤمنون من المقضي بينهم والملائكة وطي ذكرهم لتعيينهم وتعظيمهم ﴿الحمد﴾ أي : الإحاطة بجميع أوصاف الكمال، وعدل بالقول إلى ما هو أحق بهذا المقام فقال ﴿لله﴾ ذي الجلال والإكرام علمنا ذلك في هذا اليوم عين اليقين كما كنا في الدنيا نعلمه علم اليقين.
ولما كان هذا اليوم أحق الأيام بمعرفة شمول الربوبية لاجتماع الخلائق وانفتاح البصائر وسعة الضمائر قال واصفاً له سبحانه بأقرب الصفات إلى الاسم الأعظم ﴿رب العالمين﴾ أي : الذين ابتدأهم أول مرة من العدم، وأقامهم ثانياً بما رباهم به من التدبير، وأعادهم ثالثاً بعد إفنائهم بأكمل قضاء وتقدير وأبقاهم رابعاً لا إلى أخير وقيل : إن الله تعالى ابتدأ ذكر الخلق بالحمد لله في قوله سبحانه :﴿الحمد لله الذي خلق السموات والأرض﴾ (الأنعام : ١)
وختم بالحمد في آخر الأمر وهو استقرار الفريقين في منازلهم فنبه بذلك على تحميده في بداية كل أمر وخاتمته والله أعلم بمراده وأسرار كتابه، وقول البيضاوي تبعاً للزمخشري عن النبي ﷺ "من قرأ سورة الزمر لم يقطع الله رجاءه يوم القيامة وأعطاه الله ثواب الخائفين". حديث موضوع، وقوله عن عائشة رضي الله عنها وعن أبيها :"أنه عليه الصلاة والسلام كان يقرأ كل ليلة بني إسرائيل والزمر" رواه الترمذي وغيره.
٥٥٨
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٥٤