وجعل لكل واحد من السعداء والأشقياء في الدنيا درجة معينة من موجبات السعادة وموجبات الشقاوة، وفي الآخرة تظهر تلك الآثار وإن حملنا الرفيع على المرتفع فهو سبحانه وتعالى أرفع الموجودات في جميع صفات الكمال والجلال.
تنبيه : في رفيع وجهان ؛ أحدهما : أنه مبتدأ والخبر ﴿ذو العرش﴾ أي : الكامل الذي لا عرش في الحقيقة إلا هو فهو محيط بجميع الأكوان ومادة لكل جماد وحيوان وعال بجلاله وعظمته عن كل ما يخطر في الأذهان وقوله تعالى :﴿يلقي الروح﴾ أي : الوحي سماه روحاً لأنه تحيا به القلوب كما تحيا الأبدان بالأرواح.
﴿من أمره﴾ قال ابن عباس : أي : رضاه، وقوله :﴿يلقي﴾ يجوز أن يكون خبراً ثانياً وأن يكون حالاً، ويجوز أن تكون الثلاثة أخباراً لقوله تعالى :﴿هو الذي يريكم آياته﴾.
ولما كان أمره تعالى غالباً على كل أمر أشار إلى ذلك بأداة الاستعلاء فقال تعالى :﴿على من يشاء﴾ أي : يختار ﴿من عباده﴾ للنبوة وفي هذا دليل على أنها عطائية وقوله :﴿لينذر﴾ أي : يخوف غاية الإلقاء والفاعل هو الله تعالى، أو الروح، أو من يشاء، أو الرسول. والمنذر به محذوف تقديره لينذر العذاب. ﴿يوم التلاق﴾ أي : يوم القيامة فإن فيه تتلاقى الأرواح والأجساد وأهل السماء والأرض، وقال مقاتل : يلتقي الخلق والخالق تعالى. وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم، وقيل : يلتقي العابدون والمعبودون. وقيل : يلتقي فيه المرء مع عمله والأولى أن تفسر الآية بما يشمل الجميع.
﴿يوم هم بارزون﴾ أي : خارجون من قبورهم وقيل : ظاهرون لا يسترهم شيء من جبل أو شجر أو تلال أو غير ذلك، وقيل : بارزون كناية عن ظهور حالهم وانكشاف أسرارهم كما قال
٥٦٨
تعالى :﴿يوم تبلى السرائر﴾ (الطلاق : ٩)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٥
والأولى أيضاً أن تفسر الآية بما يشمل الجميع كما قال تعالى :﴿لا يخفى على الله﴾ أي : المحيط علماً وقدرة ﴿منهم﴾ أي : من أعمالهم وأحوالهم ﴿شيء﴾ وإن دق وخفي ويقول الله تعالى في ذلك اليوم بعد فناء الخلق ﴿لمن الملك اليوم﴾ أي : يا من كانوا يعملون أعمال من يظن أنه لا يقدر عليه أحد، فلا يجيبه أحد فيجيب نفسه فيقول تعالى :﴿لله﴾ أي : الذي له جميع صفات الكمال ثم دل على ذلك بقوله تعالى :﴿الواحد﴾ أي : الذي لا يمكن أن يكون له ثان بشركة ولا قسيمة ولا غيرهما ﴿القهار﴾ أي : الذي قهر الخلق بالموت، وقيل : يجيبونه بلسان الحال أو المقال فيقولون ذلك، وقال الرازي : لا يبعد أن يكون السائل والمجيب هو الله تعالى، ولا يبعد أيضاً أن يكون السائل جمعاً من الملائكة والمجيب جمعاً آخرين وليس على التعيين، فإن قيل : الله تعالى لا يخفى عليه شيء منهم في جميع الأيام فما معنى تقييد هذا العلم بذلك اليوم ؟
أجيب : بأنهم كانوا يتوهمون في الدنيا أنهم إذا استتروا بالحيطان والحجب أن الله تعالى لا يراهم وتخفى عليه أعمالهم فهم في ذلك اليوم صائرون من البروز والانكشاف إلى حال لا يتوهمون فيها مثل ما يتوهمون في الدنيا كما قال تعالى :﴿ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيراً مما تعملون﴾ (فصلت : ٢٢)
وقال تعالى :﴿يستخفون من الناس ولا يستخفون من الله وهو معهم﴾ (النساء : ١٠٨)
وهو معنى قوله تعالى :﴿وبرزوا لله الواحد القهار﴾ (إبراهيم : ٤٨)
ولما أخبر تعالى عن إذعان كل نفس بانقطاع الأسباب أخبرهم بما يزيد رعبهم ويبعث رغبتهم وهو نتيجة تفرده بالملك فقال تعالى :
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٥
٥٦٩
﴿اليوم تجزى﴾ أي : تقضى وتكافأ ﴿كل نفس بما﴾ أي : بسبب ما ﴿كسبت﴾ أي : عملت لا تترك نفس واحدة لأن العلم قد شملهم والقدرة قد أحاطت بهم وعمتهم، والحكمة قد منعت إهمال أحد منهم فيجزى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ﴿لا ظلم اليوم﴾ أي : بوجه من الوجوه ﴿إن الله﴾ أي : التام القدرة الشامل للعلم ﴿سريع الحساب﴾ أي : بليغ السرعة فيه لا يشغله حساب أحد عن حساب غيره في وقت حساب ذلك الغير ولا يشغله شأن عن شأن لأنه تعالى لا يحتاج إلى تكلف عدّ ولا يفتقر إلى مراجعة كتاب ولا شيء، فكان في ذلك ترجية وخوف الفريقين لأن المؤمن يرجو إسراع البسط بالثواب والظالم يخشى إسراع الأخذ بالعذاب، وعن ابن عباس : إذا أخذ في حسابهم لم يقل أهل الجنة إلا فيها ولا أهل النار إلا فيها.
ثم نبه تعالى بقوله سبحانه :
﴿وأنذرهم يوم الآزفة﴾ أي : القيامة على أن يوم القيامة قريب، ونظيره قوله تعالى :﴿اقتربت الساعة﴾ (القمر : ١)
قال الزجاج : إنما قيل لها آزفة لأنها قريبة وإن استبعد الناس مداها لأن ما هو كائن قريب، والآزفة فاعلة من أزف الأمر إذا دنا وحضر كقوله تعالى في صفة القيامة :﴿أزفت الآزفة﴾ (النجم : ٥٧)
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٩
أي : قربت قال النابغة :
*أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكان وقد*
وقال كعب بن زهير :
*بان الشباب وهذا الشيب قد أزفا ** ولا أرى لشباب بائن خلفا*


الصفحة التالية
Icon