بما كان لهم فيها من عجائب الآثار فقال عز من قائل :
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٩
أولم يسيروا في الأرض﴾
أي : في أي أرض ساروا فيها ﴿فينظروا﴾ أي : نظر اعتبار كما هو شأن أهل البصائر ﴿كيف كان عاقبة﴾ أي : آخر أمر ﴿الذين كانوا﴾ أي : سكاناً للأرض عريقين في عمارتها ﴿من قبلهم﴾ أي : قبل زمانهم من الكفار كعاد وثمود ﴿كانوا هم﴾ أي : المتقدمون لما لهم من القوة الظاهرة والباطنة ﴿أشد منهم﴾ أي : من هؤلاء ﴿قوة﴾ أي : ذوات ومعاني وإنما جيء بالفصل وحقه أنه يقع بين معرفتين لمضارعة أفعل من المعرفة في امتناع دخول اللام عليه، وقرأ ابن عامر منكم بكاف والباقون بهاء الغيبة ﴿و﴾ أشد ﴿آثاراً في الأرض﴾ لأن آثارهم لم يندرس بعضها إلى هذا الزمان وقد مضى عليه ألوف من السنين، وأما المتأخرون فتنطمس آثارهم في أقل من قرن ومع قوتهم ﴿فأخذهم الله﴾ أي : الذي له صفات الكمال أخذ غلبة وقهر وسطوة ﴿بذنوبهم﴾ أي : بسببها ﴿وما كان لهم﴾ من شركائهم الذين ضلوا بهم هؤلاء ومن غيرهم ﴿من الله﴾ أي : المتصف بجميع صفات الكمال ﴿من واق﴾ أي : يقيهم عذابه والمعنى : أن العاقل من اعتبر بغيره وأن الذين مضوا من الكفار كانوا أشد قوة من هؤلاء، ولما كذبوا رسلهم أهلكهم الله تعالى عاجلاً، وقرأ ابن كثير في الوقف بالياء بعد القاف والباقون بغير ياء واتفقوا على التنوين في الوصل. ثم ذكر تعالى سبب أخذهم بقوله تعالى :
﴿ذلك﴾ أي : الأخذ العظيم ﴿بأنهم﴾ أي : الذين كانوا من قبل ﴿كانت تأتيهم رسلهم بالبينات﴾ أي : الآيات الدالة على صدقهم دلالة هي من وضوح الأمر بحيث لا يسع منصفاً إنكارها، وقرأ أبو عمرو بسكون السين والباقون بضمها.
ولما كان مطلق الكفر كافياً في العذاب عبر بالماضي فقال تعالى :﴿فكفروا﴾ أي : سببوا عن إتيان الرسل عليهم السلام إليهم الكفر بهم ﴿فأخذهم الله﴾ أي : الملك الأعظم أخذ غضب ﴿إنه قوي﴾ أي : متمكن مما يريد غاية التمكن ﴿شديد العقاب﴾ لا يؤبه بعقاب دون عقابه.
ولما سلَّى تعالى رسوله ﷺ بذكر الكفار الذين كذبوا الأنبياء عليهم السلام قبله وبمشاهدة آثارهم، سلاه أيضاً بذكر قصة موسى عليه السلام المذكورة في قوله تعالى :
﴿ولقد أرسلنا﴾ أي : على ما لنا من العظمة ﴿موسى بآياتنا﴾ أي : الدالة على جلالنا ﴿وسلطان﴾ أي : أمر قاهر عظيم جداً لا حيلة لهم في مدافعة شيء منه ﴿مبين﴾ أي : بين في نفسه يتبين لكل من يمكن إطلاعه عليه أنه ظاهر، وذلك الأمر هو الذي كان يمنع فرعون من الوصول إلى أذاه مع ما له من القوة والسلطان.
﴿إلى فرعون﴾ أي : ملك مصر ﴿وهامان﴾ أي : وزيره ﴿وقارون﴾ أي : قريب موسى ﴿فقالوا﴾ أي : هؤلاء ومن معهم هو ﴿ساحر﴾ لعجزهم عن مقاهرته أما من عدا قارون فأولاً وآخراً بالقوة والفعل، وأما قارون ففعله آخراً بين أنه مطبوع على الكفر وإن آمن أولاً، وإن هذا كان قوله وإن لم يقله بالفعل في ذلك الزمان فقد قاله في النية، فدل ذلك على أنه لم يزل قائلاً به لأنه لم يتب منه ثم وصفوه بقولهم :﴿كذاب﴾ لخوفهم من تصديق الناس له.
﴿
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٩
فلما جاءهم بالحق﴾
أي : بالأمر الثابت الذي لا طاقة لأحد بتغيير شيء منه كائناً ﴿من عندنا﴾ على ما لنا من القهر فآمن معه طائفة من قومه ﴿قالوا﴾ أي : فرعون وأتباعه ﴿اقتلوا﴾ أي : قتلاً حقيقياً بإزالة الروح ﴿أبناء الذين آمنوا﴾ به أي : فكانوا ﴿معه﴾ أي : خصوهم بذلك واتركوا من عداهم فلعلهم يكذبونه ﴿واستحيوا نساءهم﴾ أي : اطلبوا حياتهن بأن لا تقتلوهن، قال قتادة : هذا غير القتل الأول لأن فرعون كان قد أمسك عن قتل الولدان، فلما بعث موسى عليه السلام أعاد القتل
٥٧٢
عليهم فمعناه أعيدوا عليهم القتل لئلا ينشؤوا على دين موسى فيقوى بهم، وهذه العلة مختصة بالبنين فلهذا أمر بقتل الأبناء واستحياء نسائهم ﴿وما﴾ أي : والحال أنه ما ﴿كيد الكافرين﴾ تعميماً وتعليقاً بالوصف ﴿إلا في ضلال﴾ أي : مجانبة للسداد الموصل إلى الظفر والفوز لأنه ما أفادهم أولاً في الحذر من موسى عليه السلام ولا آخراً في صد من آمن به مرادهم بل كان فيه تبارهم وهلاكهم، وكذا أفعال الفجرة مع أوليائه تعالى ما حفر أحد منهم لأحد منهم حفرة مكراً إلا أركسه الله تعالى فيها.
جزء : ٣ رقم الصفحة : ٥٦٩


الصفحة التالية
Icon